مدار أوّل:
” بئس الوغي يجني الجنود حتوفهم.. فى ساحها.. والفجر للتيجان.. ما أقبح الإنسان يقتل جاره.. ويقولُ هذي سُنّة العُمران” ((إيليا أبو ماضي))
-1-
أكتب صباح اليوم الأربعاء 30 أغسطس 2023، والذي يُصادف ((اليوم العالمي لضحايا الإختفاء القسري))، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى قرارها 47/133 المؤرخ 18 ديسمبر 1992، بوصفه مجموعة مباديء واجبة التطبيق على جميع الدول. وللمزيد من الإبانة والتوضيح – المطلوبين- نقول، أننا نكتب ونتحدث – هنا – وفى هذا المقام، وهذا المقال، عن ((الإختفاء القسري)) وفقاً للإعلان العالمي المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري.
-2-
يُعتبر (“الإخفاء” القسري) انتهاك خطير وفظيع لحقوق الإنسان، يتوجب التنبيه له والتحذير من ممارسته ضد جميع الاشخاص، لكونه ينتهك الحقوق المدنية أو السياسية للأفراد، أو الإثنتين – معاً- ومنها على سبيل المثال – وليس الحصر – حق الفرد فى الحرية والأمن على شخصه، والحق فى عدم التعرُّض للتعذيب، أو لأيّ ضربٍ من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، والحق فى الحياة “فى الحالات التي يُقتل فيها الشخص المختفي”، والحق فى الهوية، والحق فى الضمانات القضائية، والمحاكمة العادلة، والحق فى سبيل “انتصاف” فعّال، بما فى ذلك جبر الضرر والتعويض، وحق الفرد فى الإعتراف بشخصيته القانونية – ومن قبل ومن بعد – الحق فى معرفة الحقيقة، فيما يخص ظروف الإختفاء، مضافاً إلى معرفة مصير الشخص المختفي، فضلاً عن حقه فى حرية جمع واستلام ونشر معلومات لتحقيق هذه الغاية.
-3-
وبمثلما ينتهك الإختفاء القسري الحقوق المدنية والسياسية، كذلك، ينتهك الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للضحايا وأسرهم، ومنها الحق فى الصحة، والحق فى التعليم، والحق فى توفير المساعدة والحماية للأسرة، والحق فى مستوى معيشي مناسب. وجميع هذه الحقوق تكفلها للأشخاص المواثيق الدولية التى أشرنا إليها فى هذا السياق الهام. ولن نضيف جديداً حينما نقول إنّ المتضررين والمتضررات من الحرب، ليسوا / لسن هم/ن الضحايا وحدهم/ن، ولكن، يشمل الضرر والأذي النفسي والمادي والمعنوي أُسر الضحايا، وعائلاتهم/ن الصغيرة والكبيرة والممتدة، وأصدقائهم/ن، ولهذا يجب أن لا نسمح لمرتكبي هذه الجريمة البشعة الإفلات من العقاب وعلينا أن نحذرهم بتاكيد أنّ المساءلة والمحاسبة، والعقاب على هذه الجريمة الخطيرة، آتٍ، وطال الزمن أم قصُر!.
-4-
وفقاً للمعايير الدولية المعروفة، يحدث الإختفاء القسري عندما “يتم القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أيّ نحو، على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها، أو على أيدي مجموعة منظمة، أو افراد عاديين يعملون بإسم الحكومة، أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثمّ رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين، أو عن أماكن وجودهم/ ن أو رفض الإعتراف بحرمانهم/ ن من حريتهم/ ن، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون”.
-5-
بالإضافة إلى كونه جريمة فى القوانين الوطنية، يُشكّل الإختفاء القسري “جريمة ضد الإنسانية” عندما يُرتكب ضمن هجوم واسع النطاق، أو منهجي، على أيّ مجموعة من السكان المدنيين، وهو جريمة، لا تخضع لـ(قانون التقادم)، وذلك، وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي دخل حيز التنفيذ فى 1 يوليو 2002، والإتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الإختفاء القسري، التى اعمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة، فى 20 ديسمبر 2006.
-6-
فى هذا المقام، وهذا المقال، نريد أن نؤكّد ما ورد حرفياً فى المادة الأولي من ((الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري))، والتي تُقرأ: “لا يجوز تعريض أيّ شخص للإختفاء القسري” و”لا يجوز التذرع بأيّ ظرف استثنائي كان، سواء تعلّق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الإستقرار السياسي الداخلي، أو بأيّ حالة استثناء أُخري، لتبرير الإختفاء القسري”.. ولهذا يجب أن يعرف الذين يقومون بممارسة جريمة الإختفاء القسري، أنّ هذه الجريمة، ليس هناك أيّ مبرر لها، ولا يمكن التذرّع بأيّ أسباب لارتكابها، وبالتالي، عليهم أن يكونوا مستعدين للمساءلة والمحاسبة والعقاب.
-7-
فى فبراير 2021، أعلنت حكومة السودان، على لسان المندوب الدائم للسودان لدى الأُمم المتحدة بجنيف، السفير علي بن أبي طالب عبدالرحمن، خلال حضوره الجلسة العامة العامة الـ(46) لمجلس حقوق الإنسان، عن “انضمام” السودان وموافقته و”مصادقته” رسمياً على ((الإتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الإختفاء القسري))، بجانب المصادقة والإنضمام رسمياً لـ((إتفاقية مناهضة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللا إنسانية أو المهينة))، وهي الإتفاقية التي سبق أن “وقّع” عليها السودان، بتاريخ ( 4 يونيو 1986)، وعليه يصبح هذا الإنضمام والمصادقة مُلزماً/ةً للدولة السودانية.
-8-
فى مناخ الحرب الكارثية الدائرة فى السودان، ومنذ اندلاعها فى 15 أبريل 2023، أصبح “الإختفاء القسري” واحداً من أكبر وأفظع انتهاكات حقوق الإنسان فى السودان، وقد استخدمه طرفا الحرب (الدعم السريع) و(الجيش “الإستخبارات العسكرية”)، ضمن الأسلحة المحرمة و”الفتاكة” التى أُستخدمت فى حربهم العدمية، وهو سلاح محرّم ومجّرم دولياً.
-9-
هناك توثيق دقيق، تقوم به أطراف ومنظمات عديدة من حركة حقوق الإنسان السودانية، وغيرها من المنظمات والمؤسسات الأممية المعنية، إذ يتم رصد وتوثيق الإنتهاكات، بصورة احترافية، حيث يتم الرصد والتوثيق والإبلاغ، وتُنشر التقارير بصورة دورية، و”تُدوّن” بلاغات (الإختفاء القسري) لدي النيابات العامة، عبر وكلاء النيابة العامة، ويقوم بذلك الجهد الكبير، محامون ومحاميات، من ذوي/ات الكفاءة والنزاهة والخبرة القانونية العالية، يقومون ويُقمن بفتح البلاغات، نيابة عن أولياء المختفين/ ات.
-10 –
لتعذّر فتح البلاغات فى الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، التى لم تُبقِ الحرب فيها على “منافذ” أو “بنايات” نيابية، أو قضائية، يمكن أن يصلها الناس طلباً للحماية والعدالة، يتم تقديم طلب تدوين بلاغات فى ولاية الجزيرة “نموذجاً”، لدى النيابة العامة بودمدني، بالنسبة للمختفين/ات قسرياً، فى ولاية الخرطوم، كما أنّ هناك ولايات ومُدن أُخري شهدت حالات كثيرة من الإختفاء القسري، ومنها – على سبيل المثال، لا الحصر- الجنينة فى غرب دارفور، والفاشر فى شمالها، يتعذّر – حالياً- تدوين بلاغات الإختفاء القسري فيها، كما يتعرض الفارون والفارات من جحيم الحرب فى دارفور الكبري، إلى (إختفاء قسري)، وهم/ن فى طريقهم/ن فى رحلة عبور الحدود السودانية / التشادية، بحثاً عن الأمن والأمان عبر الحدود.. وهناك شهادات وروايات مُحزنة ومؤلمة يحكيها ذوو المختفين والمختفيات قسرياً، وبعض هذه الشهادات موثقة ومحفوظة عن قصص الإختفاء القسري فى دارفور وكردفان، وغيرهما من الولايات والمدن السودانية، سيأتي – بلا شك – زمن الكشف عنها وملاحقة مرتكبيها قضائياً.
-11-
هناك احصاءات دقيقة، تُفيد بوقوع حالات إختفاء قسري تشمل نساء ورجال، موثقة بصورة احترافية، تقوم بها مجموعات حقوقية، نشأ بعضها بعد حرب 15 أبريل 2023، نذكر منها ((المجموعة السودانية لضحايا الإختفاء القسري)) “نموذجاً”، التي بدأت تبذل جهوداً قانونية مقدرة، فى الرصد والتوثيق ومتابعة بلاغات الإختفاء القسري، كما أنّ هناك (مبادرة مفقود) التي نشأت فى أعقاب جريمة ومجزرة فض الإعتصام من أمام القيادة العامة بالخرطوم التي حدثت يوم (الإثنين 3 يونيو )2019، وما سبقها، وما تلاها، من جرائم ((الإختفاء القسري))، وجميعها جرئم ضد الإنسانية، لا – ولن – تسقط بالتقادم، كما أسلفنا القول من قبل، وهذا يعني أنّ عملية التوثيق وفتح البلاغات فى حد ذاتها، والإحتفاظ بملفات قضايا (الإختفاء القسري) يجب أن تبقي فى الحفظ والصون، بعيدةً عن أيدي وعبث الجناة، ومن المؤكّد انّها ستكون من أهم الأدلة، لإثبات الجريمة، وقتما كان التقاضي الوطني أو الدولي ممكناً، وهذا ما يجب أن نعد له العدة، ونجهز أنفسنا له، لتحقيق العدالة فى هذا الملف الحساس.
-12-
الواجب يحتم علينا فى حركة حقوق الإنسان السودانية، كما فى ((صحافة حقوق الإنسان))، و((الصحافة الحساسة تجاه النزاعات))، مواصلة مشوار البحث عن (الحقيقة) فى مسألة وجريمة ((الإختفاء القسري))، كما علينا استمرار بناء القدرات، وتعزيزها، فى التعامل مع ظاهرة الإختفاء القسري، بإعتبارها جريمة ضد الإنسانية، والمطلوب المساهمة والمشاركة الواعية فى التوثيق والنشر، وفى مجمل عمليات وأنشطة المناصرة، حتي تتحقق كل الأهداف المنشودة من مناهضة الإختفاء القسري.
-13-
نختم بالقول: هناك جهود كبيرة ومبادرات صغيرة وبسيطة، ظلّت مبذولة، حول قضايا الإختفاء القسري، التي حدثت بعد حرب 15 أبريل 2023، ضمن انتهاكات حقوق الإنسان التى ارتكبها طرفا الحرب “المليجيشية”، وكذلك، جميع الإنتهاكات التى “سبقتها”، وكانت موجودة قبل الحرب، وبخاصة جريمة ((فض الإعتصام))، وجرائم الإختفاء القسري، التي تمّت بعد تلك المجزرة، فى الخرطوم، وغالبية المدن والولايات السودانية، ضد المتظاهرين والمتظاهرات، السلميين/ات، المطالبين/ن بالديمقراطية والعدالة والسلام، واستكمال ثورة ديسمبر المجيدة، ثمّ توالت – وستتوالي – المجهودات الفردية والجماعية، وقد رأينا وسمعنا وشاركنا بأنفسنا فى مؤسساتنا الحقوقية والصحفية، فى “حملة مفقود وشركائها”، كما ساهما فى غيرها من المبادرات الحقوقية والصحفية والحملات والمجهودات الفردية والجماعية..
-14-
واليوم، وبعد حرب 15 أبريل 2023، الكارثية، أصبحت الحاجة أكبر وأعظم للمزيد من تضافر الجهود المشتركة والتنسيق والعمل المنظم وتكثيفه وتطويره ومراكمته حتى نضمن تحقيق أفضل النتائج فى مناهضة الإختفاء القسري، وبما يليق، ويستحقه شعبنا العظيم، كما يجب أن لا يُترك أمر التحقيق فى جرائم الإختفاء القسري، لطرفي الحرب الكارثية، وإنّما لا بدّ من بذل جهود دولية للتحقيق الدولي النزيه فى هذه الجريمة البشعة، لكونها جريمة ضد الإنسانية، يتوجب المطالبة بمناهضتها ومعاقبة مرتكبيها، وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.. وحتماً، “ما ضاع حق وراءه مُطالب”!
جرس أخير:
“كِبر الولد جُوّة السجن.. فاقداهو هي.. دا كُلّو كُلّو ينتهي.. زولاً تريدو وتشتهي.. تلقاهو فِي.. لا فى السجن .. لا مُختفي.. لا يقولوا ليك ما تمشي لي.. دا كُلّو كُلّو ينتهي” ((محجوب شريف)).
فيصل الباقر
مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية الكاتب/ة، وليست راديو تمازج