شرارة الصراع المسلح:
على مدى 12 شهرا، يعيش السودان قتالا عنيفا بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع شبه العسكرية تحت قيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الحرب أدى إلى ضرب مساعي وآمال الانتقال إلى الحكم المدني.
وبعد أيام من التأجيل الثاني لتوقيع اتفاق نهائي بشأن العودة إلى الحكم المدني، بسبب خلاف على دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، انطلقت الشرارة في 15 أبريل/نيسان بالعاصمة الخرطوم حيث تركزت الاشتباكات في يومها الأول في العاصمة الخرطوم “ولاية الخرطوم” وخصوصا في محيط القصر الرئاسي وفي مطار الخرطوم الدولي وأصبح الطرفين يتبادلون الاتهامات بالمسؤولية عن بدء الهجوم أولا.
سرعان ما انتقلت تلك الشرارة التي قضت على الأخضر واليابس لمدن وولايات اقليم دارفور بطابع إثني، حيث كانت اولى الانفجارات بمدينة الجنينة بين قبيلتي العرب والمساليت، التي راح ضحيتها الآلاف من الارواح وتهجير قسري للمدنيين وانتهاكات جسيمة ارتقت إلى إبادة جماعية بحسب المنظمات الدولية.
الحرب تحولت إلى ولايات الاخرى في وسط وجنوب دارفور، حيث عاش مواطنيها اسواء ليالي الخريف يسمعون دوي الانفجارات والرصاص المتساقط بدل المطر ويكثرون الدعوات لغيث ارواحهم. ومع مرور الأيام ازدادت رقعة الصراع والسيطرة على مناطق جديدة وآخرها الجزيرة والفاشر ومليط ليدخلوا دائرة النازحين واللاجئين بانتظار المجهول!
اثار خفية يدفع السودانيون ثمنها:
جراء تلك التي لا ترى بالعين المجردة “الشرارة”، فقد السودان معظم مقوماته حيث تدمرت كل البنية التحتية وحرقت معظم مؤسسات الدولة والمرافق العامة والصحية، وازداد معدل الإصابة بالاضطرابات النفسية حيث ليس سهلا أن تعيش أجواء الحرب وتفاصيلها الصعبة من مواجهات مسلحة، واستخدام أنواع الأسلحة وما يترتب على ذلك من خوف وهلع للأطفال والنساء.
تضاعف اثار الحرب، خلق حزنا وسط النساء والأطفال، عدد كبير منهن تعرضن للعنف والاغتصاب بشتى انوعه مما ساهم في حالات الانتحار، خوف من وصمة العار.
وروى أحد الناجيات من ولاية الخرطوم، لراديو تمازج، عن تعرضها مع اختها الصغيرة لحالة اعتداء جنسي من قبل قوات الدعم السريع، فظلت هي صامتة والنار تتأكل من داخلها كل ليلة خوفا على سمعة اسرتها، بينما تطيح تلك الألم باختها الصغرى لتذهب ادراج الرياح للتخلص من تلك الوصمة لتصبح جثة حامدة تاركة خلفها تساؤولات عديدة.
ويتواصل الهلاك لاعمال نهب لكل ممتلكات المواطنين المغلوب على امرهم ليقود إلى موجات نزوح داخلي ولجوء إلى دول الجوار بحثا عن ملاذ أمن.
حتى الان أعلنت الأمم المتحدة، أن الحرب أدت إلى نزوح 7.1 مليون شخص. فيما وصفت المنظمة الأممية هذه الحرب بـ “أكبر أزمة نزوح في العالم”، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 12 ألف قتيل.
بواعث أمل لغد مشرق: هل ستنجح أم ستجهض قبل أن ترى النور؟
مع اكمال الحرب في السودان عامها الاول اليوم 15 أبريل؛ والهوة الكبيرة في مواقف طرفي القتال، الجيش والدعم السريع، ظهرت طيلة الاشهر الماضية عدة بواعث أمل لغد مشرق كمبادرة جدة لوقف الحرب في 11 مايو العام الماضي، التي دفعت لحماية المدنيين وإيقاف إطلاق النار وفتح الممرات الأمنة لإيصال المساعدات الإنسانية، لكنها لم تفلح في اخماد الحريق لتمسك كل طرف بشروطه وعدم وجود رغبة حقيقة من الجنرالين.
ظهرت مبادرة “ايقاد” في محاولة لجمع بين الجنرالين “البرهان وحميدتي” في الثامن والعشرين من ديسمبر العام الماضي، لكن تأجل لأسباب فنية على حسب تصريحات الايقاد.
ويرى المحلل السياسي أحمد صالح، في تصريح لراديو تمازج، إن التأجيل جاء لعدم وجود ضمانات تلزم الطرفين بتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه، مثلما حدث في جدة الأولى والثانية.
لم تكن تلك الأخيرة وانما جاءت إضاءة اخرى بتاريخ الثاني من يناير 2024، حيث وقعت تنسيقية القوي المدنية الديمقراطية “تقدم” وقوات الدعم السريع في السودان، على إعلان أديس أبابا، لوقف نزيف الحرب في السودان. الإعلان تم توقيعه من قبل رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
وقال الدكتور منصور أرباب، رئيس حركة العدل والمساواة الجديدة: إن “هذا الاتفاق هو شرعنة لكل الجرائم والانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في حق المدنيين العزل”.
وتابع أرباب “الوثيقة نسخة معدلة من وثيقتهم الدستورية التي أشعلوا بها فتيل الحرب في السودان والابادة الجماعية والتهجير القسري في كل من غرب وسط وجنوب دارفور، مع الدمار والهجوم على الخرطوم والجزيرة”.
وأصبح الواقع أكثر تعقيدا، حينما وجه الدكتور حمدوك دعوة لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان للاجتماع معه حول ما تم الاتفاق عليه في أديس.
اشتعلت نيران الثأر في داخل الجنرالين عندما تم استقبال حميدتي في كينيا، فاستدعى السودان سفيره في العاصمة الكينية نيروبي للتشاور احتجاجا على الاستقبال الرسمي الذي نظمته الحكومة الكينية، لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، التي جاءت بعد جولة شملت أوغندا وإثيوبيا وجيبوتي وأعقبتها زيارة لدولة جنوب إفريقيا.
في الذكرى الأولى للحرب، حذر المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان، توم بيريللو، من خطورة النزاع السوداني، داعيا إلى ضرورة حل الأزمة سريعا قبل تحولها إلى “حرب إقليمية”. ورجّح بيريللو، أن تبدأ محادثات جدة قريبا، من دون تحديد التاريخ، مشيرا إلى وجود مفاوضات غير رسمية جارية في الوقت الحالي.
وقال بيريللو إن السودانيين “لا يريدون رؤية المتطرفين ومسؤولي النظام القديم الفاسدين يعودون إلى الحكم”، مؤكدا أن ما يجري يعد مشكلة استراتيجية تتمثل في “وجود بلد رئيسي في الساحل، لكنه ينزلق نحو ما هو ليس مجرد حرب أهلية، بل حرب تجر إليها جيران السودان”.
تصريحات قد تجرف السودان إلى استمرار الحرب
وسط كل تلك البواعث ظهرت تصريحات للجنرالين، قد تغير مجرى الصراع كليا، وبدأت في هدم كل الآمال، فقد قال رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 5 يناير 2024، إنه “لا صلح ولا اتفاق” مع قوات الدعم السريع، معبرا عن رفضه للاتفاق الذي وقع بين هذه القوات وجماعات سياسية سودانية.
وأمام عدد من الضباط والجنود بمدينة جبيت أضاف البرهان: “معركتنا مستمرة، ومعركة استرداد أي موقع دنسته أقدام الخونة “في إشارة للدعم السريع” وسنصله، مشددا على أن قوات الدعم السريع “لا تريد خيرا للبلاد”، متهما إياها بـ “نهب وسلب المواطنين”.
بدا طرفا الصراع يتسابقان إلى تجنيد المدنيين، لنيل التفوق العددي تحسبا لطول مدة الحرب، حيث أطلقت في بعض الولايات فيما سمي بـ “المقاومة الشعبية”، بدعم الفريق عبدالفتاح في مناطق سيطرتها في القضارف، ونهر النيل، وكسلا، وذلك بتجنيد ألاف الشباب المتطوعين بعد سيطرة الدعم على ولاية الجزيرة.
في حين انتهج حميدتي سياسة مشابهة لها بضم أفراد جدد في مناطق سيطرتها في دارفور وجزء من الخرطوم بحجة حماية أنفسهم من اللصوص واعمال الجريمة المنتشرة حيث عمل على تملكيهم بنادق كلاشنكوف وعربات وفقا لشهود عيان تحدثوا لراديو تمازج.
في الوقت الذي يحذر فيه مراقبون وناشطون من مغبة تسليح المدنيين خوفا، أن الصراع قد يصبح إثني ويفتح المجال أمام الأفراد لشراء السلاح، وانزلاق البلاد نحو المزيد من الفوضى مع احتمالية أن توفر هذه الدعوات حاضنة مواتية للجماعات الإرهابية العالمية، كما حدث في تسعينيات القرن الماضي، مما أدى إلى وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب لنحو 20 عاما قبل أن يتم شطبه منها في ديسمبر 2020.
تحليلات المحللين عن الحرب وتسليح المدنيين:
يعد تسليح المدنيين في السودان قضية شائكة تُثير نقاشا ساخنا حول آثاره وتداعياته المحتملة، وتتباين وجهات النظر حول هذه المسألة، مع وجود مخاوف وآمال متباينة تتعلق بالأمن والاستقرار والعدالة في ظل الحرب المستمر في السودان منذ 15 أبريل 2025.
الداعمون لتسليح المدنيين:
منذ اندلاع الحرب يرون في خطوة أنها ضرورية للدفاع عن النفس وحماية المجتمعات من العنف والجرائم، خاصة في ظل الفوضى وانعدام الأمن اللذان يعصفان بالسودان، كما يشيرون إلى أن تسليح المدنيين يمكنهم من المشاركة في مقاومة الحرب.
معارضو تسليح المدنيين:
فهم يحذرون من مخاطر تفاقم الصراع والعنف، مشيرين إلى أن انتشار الأسلحة، قد يؤدي إلى فوضى عارمة واشتباكات بين الجماعات المسلحة، مما قد يهدد بانهيار الدولة. كما يعبر بعض المعارضين عن قلقهم من احتمال استخدام الأسلحة من قبل جهات غير مسؤولة أو جماعات متطرفة.
ويرى الأكاديمي والباحث رشيد خليل، أن تصريحات وسلوكيات قائد الجيش لا يمكن فصلها عن المؤسسة العسكرية والسياسية، التي يعمل في سياقها، وأن أساليب عمل الجيش في دارفور لا يمكن فهمها بمعزل عن باقي مناطق السودان التي تضررت من العنف.
وتابع الباحث في تصريح لراديو تمازج، “هذه المنظومة لديها الاستعداد للعنف والتدمير سواء، كان ذلك في دارفور أو شندي أو مدني، دون أن يكون لديها أدنى اعتبار للجوانب الجهوية أو القبلية”.
وأشار المحامي علي كشك، من شمال دارفور، إن هناك عمليات تجنيد من قبل الجيش والمليشيات على اساس اثني، وقد يقود إلى حرب أهلية دموية في مختلف ولايات السودان، إن لم يتم تدراكه بأسرع وقت.
وتابع: “ما قام به الجنرالين من قتل الأبرياء، شجع على انتشار السلاح في يد المدنيين، ويعتبر مخالف للقانون وغير مشروع وفقا للمادة 26 من قانون الأسلحة والذخائر والمفرقعات لسنة 1986 وتعديلاته اللاحقة”.
وقال السياسي أبو عبيدة محمد، إن مسألة اللجوء إلى تسليح المواطنين ستقود إلى صراعات وحروب مفتوحة في المستقبل، وأضاف “على الجيش حماية المواطنين بدلا من تسليحهم لحماية أنفسهم”.
وقال: “التسليح يصاحبه خطاب الكراهية والعنصرية، في وقت يتعرض أبناء دارفور وكردفان إلى اعتقالات تعسفية وأعمال عنف ممنهج في مناطق سيطرة الجيش على أساس قبلي وجهوي”.
يلاحظ أن تسليح المدنيين قد بدأ بالفعل في بعض مناطق السودان، خاصة في إقليم دارفور، حيث تعاني المجتمعات المحلية من انعدام الأمن وسيطرة الميليشيات المسلحة. وقد أدى ذلك إلى تصاعد وتيرة الصراعات القبلية والعنف المسلح.
وإن الحل الأمثل لقضية تسليح المدنيين في السودان، يكمن في إيجاد حلول سياسية تعالج جذور الأزمات والصراعات، وتعيد الأمن والاستقرار إلى البلاد، مما يغني عن الحاجة إلى اللجوء إلى العنف وتسليح المدنيين.
ويبقى الأمل:
برغم تلك الليالي الدامسة إلا أن بعض السودانين يحملون في دواخلهم أمل وضوء لهذا النفق ووجود فرصة للخروج والتوجه نحو المفاوضات والسلام.
ويقول عثمان آدم إسماعيل، المختص في شؤون السلام وفض النزاعات لراديو تمازج، إن “تتعدد وتتنوع مقاربات وأساليب بناء السلام، لكنها تعمل كلها في نهاية المطاف لضمان أن يكون الناس في مأمن من الأذى، وأن يكون لهم الحق للوصول للقانون، وأن يتم إشراكهم في القرارات السياسية التي تؤثر عليهم، وأن يحصلوا على فرص اقتصادية أفضل”.
وتابع: “يحتاج السودان إلى المصالحة بشتى انواعها مع الانخراط في أشكال مختلفة من الدبلوماسية ودعم عمليات السلام الرسمية، تعزيز الديمقراطية والسياسة الشاملة، كتضمين الفئات المهمشة، وإطلاق مبادرات المواطنة النشطة، وتحسين أنظمة العدالة، ومبادرات مكافحة الفساد، والإصلاحات الدستورية، والوصول إلى مبادرات العدالة، وإنشاء لجان الحقيقة والمصالحة، مع العمل على تحسين أمن المجتمع وتشكيل سلوك القوى الأمنية”.