“قراءة تحليلية للواقع السياسي السوداني “
* الحلقة الأولى:
يبدو أن الثورة الديسمبرية في العام 2019 وإمتداداتها ، مضافا إليها إنقلاب الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 نوفمبر 2021 ، ومرورا بالحراك السياسي اليومي ، قد أفرزت واقعا سياسيا جديدا مازالت تتشكل ملامحه المتحورة بسرعة وإستمرار كبيرين ينذر بالعديد من المتغيرات الجزرية العميقة التي حتما ستنعكس تداعياتها وتترك بصماتها الواضحة علي حاضر ومستقبل السياسة السودانية ، والتي من المؤكد ستنعكس آثارها سلبا أو إيجابا علي جميع المؤسسات الحزبية في القريب العاجل .
وأقل ما يمكن تلمسه من إسقاطات هذا الواقع الجديد وإنعكاساته ، هو التقدم الكبير والمتنامي في وعي الشعب السوداني مقارنة بمواقف ومخاطبات جميع الأحزاب السياسية للأزمة التي لم تصل إلي درجة الإرتقاء لمستوي الشارع ، الأمر الذي يتطلب منها لكي تصمد علي السطح والبقاء علي قيد الحياة ، بذل المزيد من المحاولات الجادة في تجديد وتطوير خطابها السياسي ليتماشي مع ضرورة المرحلة وهي عملية التحول الديمقراطي المدني ، بهدف المواكبة ومسايرة هذا الواقع الجديد ، والعمل علي إعادة قراءتها لمتطلبات الشارع المتصاعد في غليانه بدلا من إضاعة الوقت في المحاولات المكشوفة والعمل بشتي السبل علي إقصاء وتخوين بعضها البعض ، وبذل مجهودات عبثية تهدف إلي إستقطاب الثوار وإستمالة الشارع الذي هو قد أصبح أكثر تقدما ووعيا في طرح قضاياه وإبتداع أساليبه المتجددة المستقلة للدفاع عنها رغم أنه مازال في طور تشكيلاته الأولية ولم تتبلور إتجاهاته بعد .
بالتأكيد كل هذا يتطلب من القوي السياسية إستحداث خطابا جديدا أكثر شمولية وإنفتاحا ، مواكبا لتطلعات الثوار وملبيا لأهداف الثورة التي قد قدموا من أجلها تضحيات جسام ، ليس من أجل الأحزاب السياسية التي قد أصبحت عاجزة في التعبير عن تطلعاتهم بل تجاوزا لها ، وهي مازالت متمسكة بالكيديات والمزايدات السياسية كطابع نمطي قديم في سلوك السياسة السودانية يصعب من خلاله المواكبة ، ويبدو أن البعض منها متمسكا بركونه علي الماضي ومتقوقعا فيه رغم أن جزءا كبيرا منه او معظمه سقط من حسابات الجيل الراكب رأس ، وإلا ستفقد هذه الأحزاب فرصتها في قيادة الشارع أو مواكبته ، مما ينزر بطرح شخصيات مستقلة جديدة أكثر قدرة علي المنافسة وأخري مدفوعة من جهات خارجية تعمل جاهدة على مصادرة الثورة وسرقتها خدمة لمصالحها .
من واقع الحراك السياسي السوداني الماثل دون التحسب لأي متغيرات مرتقبة ، رغم أن الساحة مازالت حبلي بالمفاجاءات ، تبدو الملامح المؤكدة والواضحة فيه بروز نزر لمعركة سجالية قادمة بنهاية الفترة الإنتقالية إذا قدر لها النجاح ، تتجلي أحد الأطراف الرئيسية القوية المنافسة في هذه المعركة المرتقبة في شخصية رئيس الوزراء السابق والآني الدكتور عبدالله حمدوك كأقوي المرشحين ، الذي من الواضح أنه قد أصبح رمزا للحكم المدني القادم في السودان لما يتمتع به من قبول واسع لدي الغالبية العظمي من الجماهير السودانية التي أوصلته أعلي قمم الشخصية الكارزمية بلا منازع ، مسنودا بقوة دفع خارجية ممثلة في التأييد القوي الذي يتمتع به من قبل المجتمع الدولي والذي يصعب أن تتخطاه العين المجردة ، وهذان العاملان تجعلانه الأكثر حظا من غيره من المنافسين المحتملين ، بل تؤهلانه للعبور ولو كان مستقبل إذا تأسست الإنتخابات علي النظام الرئاسي .
مما يعضد هذه الفرضية هو أن الثورة قد صفرت عداد الفعل السياسي ، وتجاوزت كل ما له صلة بالحرس القديم ، ووضعت الجميع علي خط متساوي في مضمار المنافسة ، وتركت الباب مفتوحا لمن هو الأصلح والأكثر قراءة للواقع ولما ستسفر عنه نهايات الحراك . وبالرغم من الإنقسام الواضح في الشارع السياسي السوداني حول شخصية رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك ما بين الرفض والقبول ، نتيجة للموقف الذي قد أسفر عنه الإتفاق المبرم بينه وقائد الانقلاب الفريق عبد الفتاح البرهان في21نوفمبر 2021 ، إلا إنه مازال الشخصية المحورية الذي يمثل حصان السباق الأسود ، ومازالت لديه الفرصة في مصالحة الجماهير التي تساقطت من قاطرته ، ومازالت لديه من الأسباب التي لا يمكن البوح والإفصاح عنها آنيا كأسباب حقيقية حملته لتوقيع إتفاق مع من لم يتواني في تسميتهم بالإنقلابيين وما قاموا به هو إنقلاب علي السلطة الإنتقالية ، وذلك في أول لقاء له في قناة العربية بعد خروجه من مقر إقامته الجبرية . وبالنظر لقدراته وخبراته وحنكته السياسية ، حتما إنها لا يمكن أن تجعل منه بأن يكون طوق نجاة للعسكر أو إخراجهم مما وقعوا فيه من ورطة أو مطية لمغامرتهم المعلومة العواقب ، كما لا يمكنه التضحية وبهذه السهولة بمن هم كانوا سببا في إيصاله لهذه المرتبة من الكارزمية كأول شخصية سودانية حظيت بالإجماع من قبل الشارع السوداني ، كما لا يوجد ما يجعله غير آبه بكل هذا الزخم الكبير من السند المحلي والدولي ، مما يتحتم علينا النظر بجدية علي النصف الآخر من الكوب ، وإعطاء فرصة أخيرة للمرور عبر هذا المنعطف الخانق ، ومحاولة إجراء متابعات دقيقية لقراراته حتي نكون منصفين في حكمنا علي هذه الشخصية المتميزة دون تسرع . الرجل من أسبابه الظاهرة التي دعته للجلوس في حوار مع الإنقلابيين علي حد قوله هو حرصه علي حقن دماء السودانيين ، وحفاظه علي المكاسب الإقتصادية التي قد تحققت في الفترة الماضية ، وبالضرورة لتحقيق هذين المبدئين الظاهرين يتحتم عليه عدم السير وحده في أدغال العسكر للصعوبة البالغة علي إمكانية السير عبر (دشمهم) الخرسانية وخنادقهم البرميلية ، كما يبدو للجميع بأن الطريق محفوف بالمخاطر ، ولكن لا مجال للعودة إلي الوراء وتصميم الدكتور عبد الله حمدوك علي العبور والإنتصار رغم تقديرات البعض في الرفض ، يؤكد عنصر القوة والثقة والعزيمة التي يتمتع بهما ، رغم إنها لم تلبي اشواق الجميع وتطلعاتهم الكبيرة ولكنها قد فتحت الباب علي مصراعية للعودة القوية المدنية ، وهي بذلك تعد إختراقا حقيقيا خطيرا إذا أحسن إستغلالها والتعامل معها وهذا ما لا تشتهيه سفن العسكر بأشرعتها الممزقة ولا يتمنونه أبدا رغم تظاهرهم المخادع في مطالبتهم بعودة رئيس الوزراء إلي منصبه بعد إنقلابهم والتي كانت تهدف في حقيقتها قتل شخصية الدكتور عبدالله حمدوك وإحداث إنقساما حوله بين قوي الثورة الحية ، ولكنه الآن قد أصبح حصان طروادة سالكا مختصر الطرق لخرق وتفتيت حصنهم المنيع المسنود بحاضنتهم المرحلية المتمثلة في مجموعة إعتصام القصر ( الموز) قبل عودتهم للحاضنة الأساسية التي تعتبر واحدة من جوهر الأسباب الحقيقية التي دفعت بهم للإنقلاب ، وبالفعل قد بدأوا في إستدعائها للعودة في أول القرارات لقائد الإنقلاب.
وفي خطوة موفقة لرئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك ، وبدبلوماسيته العميقة وهدوءه المعهود ، قد أصدر قرارا بتجميد قرارات قائد الإنقلاب بغرض مراجعتها بل مراجعة كل القرارات التي صدرت بعد يوم 25 نوفمبر 2021 ، وواحدة من أهم قراراته هي إعفاءه وتعيينه لوكلاء الوزارات ، وكانت بمثابة الصفعة القوية في وجه الإنقلابيين وحاضناتهم وإحباط المحاولات الحثيثة في العودة السريعة للفلول ، وإذا نجح حمدوك في الإستقلال بكامل صلاحياته سيكون قد قلب كل الموازين التي تحرر السلطة المدنية من قبضة العسكر وهذا هو المطلوب ، فإنه الآن قد أصبح أكثر قوة بعيدا عن إملاءات أي حاضنة سياسية ، وكذلك بعيدا عن هيمنة العسكر الذين هم بأنفسهم قد أغلقوا الباب أمام أي محاولة إنقلابية أخري كواحدة من وسائل تدخلاتهم وهيمنتهم وخطفهم للسلطة المدنية .
ومما تقدم مازالت المعركة من أجل التحول المدني الديمقراطي مستمرة ، ومازالت الحوجة ملحة لإصطفاف كل القوي المدنية ودعمها للمسار المدني بكل الطرق المشروعة ، ومازالت الحوجة أكثر إلحاحا في دعم السيد رئيس الوزراء في معركته المفتوحة ضد العسكر حتي يعودوا إلي سكناتهم ، وما دون ذلك سيجدنا أول الناصحين له بتقديم إستقالته ، ويكتفي بهذا القدر من التضحية وصون كرامته التي يصعب معها إرضاء جميع الأطراف وذلك مع عدم التنازل عن حقه الفردي في المنافسة الإنتخابية القادمة لأسباب سيتم توضيحها لاحقا في حلقاتنا القادمة .
نواصل
موجو محمد داؤد _ كمبالا
مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج