لاتتجاوز الحالة السياسية الراهنة التي تعيشها بلادنا ، أكثر من توصيفها بالعدمية الكاملة ، فهي حالة تعاني من انسداد في النفق المفضي الي الحلول الشاملة ، لما يمكن ان نطلق عليه مجازاً بالازمة الوطنية ، نسبة لغياب القوى السياسية التي تتولي عبء ومسئولية التحدث باسم الناس العاديين ، و ان تكون صوتاً لهم ، في المطالبة بالتغيير وإصلاح أوضاعهم ، ومن ثم إشراكهم بانفسهم في مناقشة القضايا الوطنية ، بصوت عال ومسموع ، فاي تحول سلمي مرغوب في البلاد نحو الاستقرار يبدأ مع تشكل الوعي السياسي للمبادرة و العمل وسط الجماهير ، بادوات العمل السياسي السلمي ، لتحقيق الغايات المستقبلية المنشودة ، من سلام ، ووحدة وإستقرار.
ان اتفاق السلام الموقع مؤخرا بين الحكومة و المعارضة ، على علاته ، يمثل بالون إختبار حقيقي لامكانية ان يتسع الفضاء السياسي لممارسة حقيقية ، تحتمل الدفع بدماء جديدة في الساحة السياسية الملبدة بالعديد من الغيوم التي لن تنجلي الا من خلال قيادة حراك جديد ، يهدف الي تأسيس كيانات سياسية جديدة ، كيانات تؤمن بالعمل المدني السلمي بادواته المعروفة ، لإجتراح حلول جديدة ، وقد بات ذلك ممكنا بدليل الحوارات و النقاشات المستفيضة التي انتظمت بين الشباب ، و التي تنادى جميعها بضرورة إبتدار مرحلة جديدة في العمل السياسي ، و الذي لاتكون غاياته الاساسية خوض غمار التسويات التي تنتهي بتقاسم السلطة عن طريق المحاصصة ، فتلك غايات تنظوي على تغليب المصالح الفردية التي تنتهي بانتهاء أجل تنفيذ المعاهدة المبرمة ، وتلك ثقافة سياسية متوارثة في التاريخ السياسي المعاصر لبلادنا ، حيث تعودت النخبة على إختلاق كيانات سياسية الغرض منها الوصول الي السلطة ، وهناك ينتهي كل شئ.
ان بلادنا في حالة لتجاوز (الثقافة السياسية لاتفاقيات السلام) و التي تنشأ على أساسها أحزاب وحركات سياسية ، متكررة من حيث قائمة المطالب و الطروحات ، التي يتم وضعها على عجالة بغية تكملة الاجراءات المطلوبة للالتحاق بقطار السلطة ، وقد وقع الشباب ضحية ذلك الفعل ، بشعاراته الثورية البراقة ، فمنهم من أصابه الاحباط ومنهم من إستسلم وقام بالتطبيع البراغماتي ، بينما قنع أغلبهم من الغنيمة بالإياب .
خلال الفترات الماضية ، إنتظمت نقاشات مستفيضة في اوساط الشباب ، بضرورة وضع خارطة جديدة للعمل السياسي بالبلاد ، لكنها اتسمت جميعها بالطابع النوستالجي الذي يفكر في استعادة ايام العمل الطلابي في الجامعات ، وهى دعوة كانت انطلقت بدواعي وغايات متباينة ، علاوة على كونها قد انطرحت حين اندلاع الأزمة ، و ماتسببت فيه من انقسامات جديدة اختبرها معظم الشباب لأول مرة ، مثلما انها استندت ايضا على التصنيفات القديمة للكوادر الطلابية في فترة التسيعينيات ، ويؤخذ عليها انها كانت تنادى باعادة تكرار التجربة السابقة كما هي ، برغم المتغيرات العديدة التي جرت في الساحة السياسية بجنوب السودان بعد الانفصال.
ان ضرورة نشوء تيار سياسي فكري جديد في جنوب السودان ، وبالاخص في هذه المرحلة تستدعيه الضرورة الموضوعية من وجهة نظري الضعيف ، اذ ان الاطراف الموقعة على اتفاق السلام ستنصرف الي مشاكساتها ، وستهتم بالفوائد و المكتسبات التي تعنيها في المقام الاول و الاخير ، ليس بحكم تجربة اتفاق اغسطس المنهار او حتي اتفاق السلام الشامل ، فالتجربة بدت عقب اول تسوية سياسية شهدتها البلاد مع اتفاق اديس ابابا للسلام ، وكادت ان تكون صفة جينية ملازمة للحركة السياسية في جنوب السودان ، وهذا يتطلب نهاية مدركة لاسس المشكلة و الحلول التي تنطوي عليها .
ان تجربة العمل السياسي الطلابي بالجامعات ، يمكن ان تمثل رصيدا كبيرا امام هذا الجيل المحظوظ جدا ، فهو ربما سيكون آخر الاجيال التي ساهمت في الحركة الطلابية التي بدأت في الاندثار الكامل مع انفصال جنوب السودان ، وقد لعب جزء منه دورا لايستهان به في القضاء على تجربة العمل السياسي بالجامعات هنا ، كجزء من فلسفة حملت اسم (الصراع) ، تلك التجربة متفردة لكونها قامت على اساس مدنى داخل الجامعات الت تمثل اكبر مراكز للاستنارة و الاشعاع ، وهي خبرة فشلت ف استعابها الحركة الشعبية ، وكافة الحركات المنبثقة عنها ، لسبب جوهري ووحيد ، بسبب تركيزها على البرامج و الطروحات الفكرية ، وليس المغانم الآنية الزائلة ، بسبب انها تنطلق في خطابها من (قاعدة وجماهير).
اتفاقية السلام ذات نفسها تهدف لتذويب القوات التي كانت تعتمد عليها الاطراف كوسائل وحيدة في حربها مع بعضها ، وستنتهي حتما الي مرحلة التداول السلمي الديمقراطي للسلطة ، لكن الأكثر خطورة في الامر ، هو ان الاتفاق قد يتعرض لهزات عديدة ، مثلما ان الجماعات الموقعة عليه بدات الان في الانقسام على نفسها بسبب السلطة ، و أموال النفط المبزولة للمنفذين لتك الانشقاقات ، لذا فان الساحة ستكون أشد حوجة لاعلان سياسي جديد وبرنامج وطني يؤسس للحل الشامل لازمات الوطن الحقيقية ، ويخرجه من حالة العدمية الراهنة.
مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج