راي: التظاهر والإعتصام أمام مقرات القوات الدولية كتكتيك مرحلي للصحوة الشبابية في جنوب السودان

باديء ذي بدء، يجب علينا تسجيل إحترامنا و إعجابنا بالشباب السوداني الواعي والذي فجر ثورة عارمة قل ما شهد مثلها دول العالم قاطبة.

باديء ذي بدء، يجب علينا تسجيل إحترامنا و إعجابنا بالشباب السوداني الواعي والذي فجر ثورة عارمة قل ما شهد مثلها دول العالم قاطبة. على مدى أكثر من خمسة أشهر و الأقدام و السواعد لا تكل أو تمل من المشاركة في التظاهرات الهادرة و التلويح بالشعارات الثورية.

بل أن هتافات الشباب تزداد قوة يوماً بعد يوم. بلا شك فإن ما يحدث حالياً في الخرطوم لن يقتصر آثاره برمته على السودان فقط بل سيتخطى حدوده و بالأخص إلى دول الجوار طال الزمن أم قصر. يبدو أن الشعار الفعال "تسقط بس !" قد سرى مثل سريان النار في الهشيم عابراً حدود السودان إلى الخارج و جالباً للرعب و الهلع إلى قلوب طواغيت المنطقة.

و كان طبيعياً أن يكون جنوب السودان أول المتأثرين بالثورة السودانية. الأمر ليس إستنساخاً صريحاً لإنتفاضة الشباب السوداني بل حراك سياسي على غرار ما يحدث في الخرطوم بأساليب مختلفة. فحركة البطاقة الحمراء و شعارها "كلي واقا بس !" بعربي جوبا، تحمل نفس أهداف الثوار في الشمال و إن إختلف سبل التنفيذ و أدواته.

فهناك إختلافات جوهرية في الوضع السياسي و العسكري و الأمني بين البلدين. كما أن الحرب اللعينة قد مزقت النسيج الإجتماعي إلى أقصى ما يمكن تصوره و تركت جرحاً نازفاً في وجدان الشعب. فعلى سبيل المثال، فإن جيش جنوب السودان هو أقرب إلى صفة الجيش القبلي منه الى الجيش القومي. و ينسحب هذه الصفة على كافة الأجهزة الأمنية في البلاد. فتعامل هذه القوات مع المتظاهرين سيكون مغايراً تماماً لما شهدناه من إلتزام معقول من القوات السودانية بإحترام حقوق المواطنين في حرية التعبير و التظاهر وفق القانون. الإحتمال الأكبر هو أن أية تظاهرة ضد نظام جوبا، سيواجه بالعنف المفرط. و بالفعل، الرئيس كير و وزير إعلامه مايكل مكوي، لوحا بإستخدام ذلك الخيار دون مواربة. فالجيش و قوى الأمن و الميليشيا الحكومية (متيانق أنيور) و التي تعرضت للتسييس و غسيل مخ, سيتعامل مع أية تظاهرة وفق منظور قبلي بحت، يرجع الأمر كله إلى إستهداف لشخص الرئيس و قبيلته. أكبر الظن أن النظام سيستعين بهذه الميليشيا لفض التظاهرات إن دعت الحاجة. و هذه ميليشيا قبلية أنشئها الرئيس للدفاع عن حكمه و تأتمر بأوامره مباشرة دون الرجوع إلى وزير الدفاع أو رئيس هيئة الاركان العامة. لقد إرتكبت الفظائع التي تشيب لهولها الولدان و عاثت فساداً في طول البلاد و عرضها.

و هنا تبرز مدى صعوبة التعامل مع الوضع في جنوب السودان لوجود تعقيدات شبه معدومة في الحالة السودانية. فالجيش السوداني و قوى الامن الأخرى لا تزال تحمل صفة القومية حيث تجد كل شرائح الشعب ممثلة فيه. فمن المستبعد أن يقدم مثل هذا الجيش و قوى الأمن على إرتكاب جريمة في حق الشعب مثل ما حدث في مدينة واو بجنوب السودان في ديسمبر عام ٢٠١٢. فقد تظاهر نفر غير قليل من المواطنين سلمياً ضد قرار نقل رئاسة محلية مدينة واو إلى بقاري. فما كان من قوات الأمن إلا إطلاق النار بكثافة و بطريقة همجية على المتظاهرين العزل أودت بحياة أكثر من ٢٥ شخصاً. و تبع ذلك حملات قمع وحشية داخل الاحياء السكنية ترتبت عليها سقوط المزيد من الضحايا.

فالمشكلة الأساسية و التي أوردت البلاد موارد الهلاك هي القبلية العمياء و الغياب التام للحس الوطني. و ما يدعو للعجب و الحزن في ذات الوقت هو وجود ثلة من السياسيين المخضرمين تدير دفة الحكم من وراء الكواليس من دون اية صفة قانونية. و الأعجب من ذلك هو أن بعض المحسوبين على النخبة المثقفة إنساقوا وراء الشوفينية القبلية و آثروا المنفعة الشخصية على حساب مستقبل الوطن بالإنخرط دون حياء أو ضمير في التطبيل للنظام.

الحراك السياسي الحالي في أوساط الشباب يشكل بارقة أمل لغد مشرق لبلادنا. إنه أول خطوة في الطريق الصحيح وصولاً لمجتمع معافى من الحالة الكارثية الراهنة. و لكن هذا الدرب محفوف بمخاطر جمة و عقبات هائلة لا قبل للشباب بها. التصميم و المثابرة لتحقيق الأهداف القومية هو ما يجب أن يتحلى به رافعي شعار "كلي واقا بس !". نصيحتي لهؤلا الشباب الأفاضل هو إتباع الخطوات التالية و هي كفيلة بإرساء سفينتهم إلى بر الآمان.

أولاً: التأثير على الرأي العام و تغيير المفاهيم يبدأ من المنزل. فليس هناك معنى أن يحارب المرء القبلية و المحسوبية في العلن بينما المقربين منه هم من ممارسي و غلاة الصفات آنفة الذكر. فيجب على الشباب العمل على تغيير مفاهيم ذويهم جنباً إلى جنب مع جهودهم في ذات الإتجاه على نطاق تراب الوطن.

ثانياً: يجب شن حرباً بلا هوادة على النعرات القبلية و عدم التردد في إنتقاد و كشف السياسيين بما فيهم رئيس الدولة الذين افسدوا الحياة السياسية و فشلوا فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة. فالشوفينية القبلية لا مكان لها في مجتمع متعدد الأعراق مثل مجتمعنا.

ثالثاً: الأخذ بزمام المبادرة في تناول و مناقشة قضايا الوطن و عدم ترك الساحة السياسية للسياسيين الوظيفيين و ذوي التوجهات المبتذلة. لقد ولى إلى غير رجعة زمن إنفراد من هم فوق سن الأربعين بالعمل فى المجال السياسي و إعتبار من دونهم عديمي الخبرة و قليلي التجربة.

ننظر من حولنا فنرى أن العالم يتجه نحو تقلد رجال و نساء في سن الشباب لمقاليد الحكم في بلادهم بما فيها بعض القوى العظمى. فكل من رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أرديرن و رئيس الجمهورية الفرنسية، إيمانويل ماكرون و زعيم كوريا الشمالية "المرعب"، كيم جونغ أُن، من فئة الشباب حيث أن أعمارهم دون سن الاربعين عاماً. و دستورياً، يحق لكل شخص بلغ عمر الثمانية عشرة عاماً الإنخراط في العمل السياسي بدون قيد أو شرط. طبعا فئة الديناصورات السياسية لا ترغب في إفساح المجال للشباب بسبب أن ذلك قد يكون بمثابة الحكم عليها بالفناء. و لكن يجب أن لا يردع ذلك الجيل الجديد من دخول حلبة التنافس السياسي و لتكن الغلبة للأصلح و لمن يقدم برامج سياسية تلقى القبول وسط أغلبية المواطنين.

رابعاً: الإيمان التام بحتمية تغيير الوضع الحالي لإنتشال البلاد من حالة الدمار و الخراب. و هذا يتطلب إرادة لا تضعف و عزيمة لا تفتر.

خامساً: ليكن سدة الحكم هي غاية طموحات الشباب و ليس الإكتفاء بفتات الموائد السياسية و الركون إلى شغل المواقع الثانوية.

سادساً: بما أن الحراك السياسي الفاعل لا بد أن يحدث داخل الوطن لكي يمتلكه الجماهير العريضة و يحقق الأهداف المرجوة، و أيضاً بما أنه من المستبعد البتة أن تقوم الحكومة بتوفير الحماية للتظاهرات السلمية ضدها، إذن اقترح على قيادات حركة البطاقة الحمراء و غيرها من الحركات الشبابية تنظيم تظاهرات و إعتصامات أمام مقرات القوات الدولية الموجودة داخل أرض الوطن. فلتتحمل هذه القوات مسؤولية حماية المتظاهرين و بالتالي تضمن حركة البطاقة الحمراء و غيرها إستمرارية الزخم الشعبي و الإعلامي.

 فإذا كانت القوات الدولية موجودة على أراضينا بغرض حماية المدنيين و توفير السلم لهم، إذن فإن حماية التظاهرات السلمية تدخل في صميم واجباتها. وجود جموع المتظاهرين و المعتصمين في تلك المواقع ستكشف للملأ إفتقار النظام للشعبية و الشرعية. كما أن ذلك سيشكل ضغطاً سياسياً مستمراً للنظام، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فإن الحراك نفسه يمثل هاجساً أمنياً كبيراً سيؤدي حتماً إلى إرهاق النظام و معاناته من تكلفة المو اجهة .

و هذا سيفتح الباب على مصراعيه لكافة الإحتمالات بما فيها الإنتفاضة الجماهيرية الشاملة و الإضراب العام و من ثم العصيان المدني. لقد إستيقظ المارد الشبابي بعد نوم دام قرابة عقد من الزمان هو عمر دولتنا الوليدة. من الواضح أن ذلك قد أقلق النظام حيث أنظاره ما زالت مشدودة نحو ما يحدث في السودان و إنعكاس ذلك على مجمل الوضع في جنوب السودان. المتشككون في هوية من هم وراء هذا الحراك السياسي و فرص نجاحه يضعون أنفسهم في موضع الشبهات. فمن مصلحة النظام التقليل من شأن هذا الحراك و السعي إلى القضاء عليه بشتى السبل. بغض النظر عن حجم الحراك ، فإن مجرد وجوده يشكل دعماً مباشراً لقوى المعارضة و فتحاً لجبهة جديدة ضد النظام. بلا ريب فإن الوقت ليس في صالح النظام – فلنتذكر بأن الثورة السودانية بدأت في سبتمبر ٢٠١٧ و مرت بحالات مد و جزر و لم تؤتي ثمارها إلا في ابريل الماضي. فبالإصرار و الإستمرار في مقارعة النظام سيكون النصر حليف الشباب و حلفائهم

 


مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج