ظلت الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة، تقدم نفسها كثورة شعبية ضد النظام الديكتاتوري في جوبا. و قد سعت بكل الطرق إلى التقليل من قوة حركات المعارضة الأخرى و حجم الدعم الشعبي التي تتمتع بها. و قد رددوا مقولة أن هناك فقط أسد واحد في غابات و أدغال جنوب السودان و هو الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة. و ليت الأمر إقتصر على ذلك، بل حاولوا بشتى الطرق و منها الصدام المسلح، إستدراج الحركات المسلحة الأخرى للإنضمام إليها. و قد نالت جبهة الخلاص الوطني قسطاً وافراً من هذه العدائيات و كانت ذروتها هي مقتل العميد المناضل جوزيف لوكوفير غيلة و غدراً بواسطة قوات رياك مشار. و الآن فقد إنقشعت العاصفة الترابية (الهبوب) التي هبت على الخرطوم و صارت الحقيقة ملك للجميع. و إنكشف حقيقة من كانوا يدعون بأنهم ملوك الغابة، فلم نسمع زئيراً يعكر صفو الهدوء في الخرطوم بل رأينا تراجعاً و إنبطاحاً مخجلاً إلى أبعد الحدود. و ما يدعو للعجب هو أن من وصمه أنصار رياك مشار بالعمالة للنظام ظلوا أوفياء لجماهيرهم و لم يتزحزحوا قيد أنملة من مواقفهم و أهدافهم الأساسية.
بتوقيعه على وثيقة الأمور العالقة بشأن الحكم، أسدل الدكتور رياك مشار الستار على فاصل آخر من مسلسل إتفاقيات الخرطوم للسلام. في أبريل عام ١٩٩٧، وقع مشار إتفاقية الخرطوم للسلام بين فصيله، حركة إستقلال جنوب السودان و حكومة السودان تحت حكم الرئيس الحالي المشير عمرالبشير.
تزامن ذلك مع مساعي حثيثة خلف الكواليس بقيادة رث الشلك مدعوماً بواسطة الحكومة السودانية. و قد كللت هذه الجهود بتوقيع إتفاقية فشودة للسلام بين الحكومة السودانية و الحركة الشعبية لتحرير السودان المتحدة بقيادة الدكتور لام أكول في سبتمبر عام ١٩٩٧. و الجدير بالذكر، فقد وقع الدكتور رياك مشار الإتفاقية نيابة عن الحكومة السودانية حيث كان يشغل منصب رئيس مجلس التنسيق لجنوب السودان. فما أشبه الليلة بالبارحة من زاوية إضافة إتفاق سلام آخر إلى القائمة الطويلة لمثل هذه الإتفاقيات تحت رعاية الحكومة السودانية. القاسم المشترك لهذه الإتفاقيات هي عدم صمودها في وجه المتغيرات السياسية. فالتنصل من بنودها و خرقها كان ديدن الأطراف الموقعة عليها. أما غير ذلك فشتان ما بين الأمس و اليوم. ففي عام ١٩٩٧ كان في معية الدكتور رياك مشار صديقه الحميم آنذاك و خصمه اللدود في الوقت الحالي،الجنرال تعبان دينق قاي، النائب الأول لرئيس جنوب السودان. كما أن أجواء التفاوض لم تكن كما هي عليها الآن في الخرطوم. فلم يسمع الملأ عن ترهيب و وعيد أو إجبار المفاوضين على توقيع إتفاق لم يكونوا طرف فيه تحت التهديد. على الرغم من تحسن أجواء التفاوض لاحقاً، فإن ما حدث في البداية سيشكل إحدى النقاط السلبية في محادثات الخرطوم للسلام عام ٢٠١٨.
في مستهل إعلانه عن مولد حركته، قدم الدكتور رياك مشار العديد من الأسباب التي دفعته إلى سلك طريق النضال المسلح ضد زملائه السابقين في حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان منها على سبيل المثال لا الحصر: (١) إنعدام الديمقراطية داخل الحزب. (٢) عدم القيام بالإصلاحات اللازمة لدفع عجلة التنمية و التطوير في البلاد. (٣) إرتكاب الفظائع و جرائم حرب ضد المواطنين. و كان أبرز أهداف حركته الجديدة ما يلي: (أ) بسط الديمقراطية و تفعيل حكم القانون و إقامة العدل. (ب) تطبيق الفيدرالية حيث أنها مطلب جماهيري منذ عام ١٩٤٧. (ج) محاسبة مرتكبي جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية. (د) الإبقاء على عدد الولايات كما هي عليها قبل الحرب (عشرة ولايات) و حسب ما نص عليها إتفاقية السلام عام ٢٠١٥. و قد إقترح حركة مشار زيادة عدد الولايات إلى ٢١ ولاية حسب التقسيم الإداري في عهد الإنجليز كرد مضاد لقيام كير بإنشاء ٢٨ ولاية جديدة.
فلنتناول موضوع غياب الديمقراطية و التي هي إحدى أهم الأسباب لتكوين الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة. هل ستحقق الإتفاقية التي وقعها رياك مشار المراد؟ لن يحتاج المرء إلى مجهود عقلي كبير ليتبين بأن الرئيس سلفا كير سيظل محتفظاً بكامل سلطاته بما فيها عزل حكام الولايات المنتخبين من قبل الشعب. و من سخريات القدر و التي تذخر بها الساحة السياسية في جنوب السودان، فإن الرئيس كير كان قد عزل قبيل الحرب حاكم ولاية الوحدة تعبان دينق قاي و الذي يشغل حاليا كما أسلفنا منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. إتفاقية الخرطوم للسلام لا تحرم كير من عزل أو إقالة من يشاء، بل أنه يستطيع إقالة رياك مشار من منصبه إذا أراد ذلك. هناك من يظن بأن مثل هذه الخطوة لن تحدث بحكم أن الإتفاقية تسمح لكير فقط بإقالة أعضاء حزبه المشاركين في الحكومة. على هؤلاء القوم تذكر حالة الدكتور شيرينو هيتانق، نائب وزير الشئون الخارجية و التعاون الدولي السابق. لقد أقاله الرئيس كير من منصبه بالقرار الجمهوري رقم ٢٨١ و الصادر بتاريخ ١٢٠٧٢٠١٦. الدكتور شيرينو هيتانق تم تعيينه خصماً على حصة المعتقلين السياسيين السابقين حسب إتفاقية السلام الآنفة الذكر. و لكن لم يردع ذلك كير من الإقدام على ما فعله. الإتفاق الجديد لن يحد من سلطات الرئيس كير بل سيستمر في ممارسة "هوايته المفضلة" في إصتصدار القرارات الجمهورية من دون حسيب أو رقيب.
تطبيق الفيدرالية كمطلب أساسي لحركة رياك مشار غاب عن نصوص الإتفاق. و قد أدى ذلك إلى تنامي الشعور بالإحباط وسط أتباعه. أما فئة الإنتهازيين و المنتفعين منهم فقد تكيفت مع الوضع الجديد بسرعة مذهلة. لقد أصبحوا يقولون بأنهم لم يتخلوا عن الفيدرالية بل سيتم الإتفاق حول تطبيقها خلال فترة عمل حكومة الوحدة الوطنية الإنتقالية المرتقبة. أما المخلصون من مؤيدي الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة، فقد أحسوا بأن زعيمهم الدكتور رياك مشار قد خان العهد و باع قضيتهم بأبخس الأثمان. لقد شعر الكثيرون منهم بمرارة لا تطاق خاصة من قاموا بحمله على أكتافهم و ظهورهم تحت وطأة القصف العنيف بواسطة الهيلوكوبترات المسلحة من جوبا إلى الحدود مع جمهورية الكنغو الديمقراطية. لقد قلب لهم رياك مشار ظهر المجن "و عادت حليمة إلى عادتها القديمة".
موضوع محاسبة مرتكبي جرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية بركان هائل لا يمكن تجاهله أو الإلتفاف حوله. فمن المسلم به هو أن أثنية النوير هي التي فقدت من أبنائها و بناتها أكثر من غيرها من أثنيات جنوب السودان. و من الطبيعي أن لا تقبل بأن يفلت مرتكبي الجرائم من المحاسبة. و لذا فإن المرء ليعجب من تفكير الدكتور رياك مشار بالوقوف في الإنتخابات "القادمة" في ظل عدم رضا قاعدته الشعبية عن الإتفاق الذي و قعه. الإستوائيون الذين كان يعول عليهم كورقة رابحة، فقد خسرهم بتخليه عن الفيدرالية. إنه إنتحار سياسي بكل معنى الكلمة.
فيما يختص بعدد الولايات، كان من المفترض الرجوع إلى الولايات العشر المنصوص عليها في إتفاقية السلام عام ٢٠١٥. إنشاء ال ٣٢ ولاية جديدة ما هي إلا خرق صريح للإتفاقية و التي وقع عليها مشار في ١٧٠٨ ٢٠١٥ في اديس ابابا و كير في ٢٦٠٨٢٠١٥ في جوبا. اللجنة المستقلة لحدود الولايات و لجنة الإستفتاء بشأن الحدود و الولايات لم تكن أصلاً موجودة في الإتفاقية الأصلية. المفارقة الكبرى هي أن منظمة الإيقاد تتحدث عن سعيها الحثيث لإحياء الإتفاقية الأصلية من خلال منتدى التنشيط و التي إنتظمت أعمالها على شكل دورات منذ ديسمبر عام ٢٠١٧. و لكن في نفس الوقت تقوم بإدخال خروقات في صلب الإتفاقية. لقد أدى ذلك إلى فقدان الثقة في فريق الوساطة من قبل المعارضة.
الإعتماد على الحدود القبلية لتحديد عدد الولايات و حدودها سيدفع بالبلاد إلى تعقيدات و مشاكل لا حصر لها، و أيضاً سيكون من الصعوبة بمكان الفكاك منها. فليس هناك حدود قبلية موثقة. كل قبائل جنوب السودان تعرف حدود أرضها على الأرض و ليس على الخرائط أو الورق. ثم مثل هذه الخطوات يمكن الركون إليها في حالة النزاع على الإراضي بين الدول مثل مشكلة أبيي و لكن لعمري لم أسمع قط أنها قد إستخدمت في تحديد حدود الولايات في دولة واحدة. و الطامة الكبرى تكمن في أن تلك اللجان تشتمل في عضويتها على بعض الأجانب، فهل نحن بصدد ترسيم حدود للولايات أم حدود دولية؟! هذه الخطوات ما هي إلا قنابل موقوتة لا تلبث أن تنفجر في وجوه الجميع و لن تؤدي إلا إلى المزيد من التفرق و التشرذم. عدد الولايات ما كان يجب أصلاً إدراجها في أجندة المحادثات. و لكن رياك مشار قد أذعن لموقف الحكومة تاركاً مؤيديه في حيرة من أمرهم.
خلاصة القول هو أن رياك مشار قد تخلى عن المواقف الواردة في مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة. هذه المواقف هي التي جذبت الآلاف من المؤيدين للإنضمام إلى حركته. الكثيرون قد تملكهم الغضب حيث لا تبدو هناك أية مكاسب واضحة للحركة عدا حصول رياك مشار على منصبه السابق و بضعة وزارات قومية. أضف إلى ذلك عدم وجود ضمانات بعدم إندلاع القتال مجدداً خاصة في ظل ما أبداه الرئيس كير من رفضه مصافحة رياك مشار خلال حفلة التوقيع على الإتفاق. كما أن حديث الرئيس كير في مطار جوبا الدولي عقب عودته من الخرطوم، زاد من المخاوف بتجدد القتال عند عودة رياك مشار إلى جوبا. كل المؤشرات تشير إلى أن تطبيق إتفاقية الخرطوم للسلام لن يكون سهلاً رغم تطمينات الوسطاء السودانيين و منظمة الإيقاد. فرغم الصخب و الضجيج الصادر من أجهزة إعلام النظام مبشرة ببزوغ فجر جديد للسلام، فإن حكماء القوم و العالمين ببواطن الأمور يقولون بأن سلام جنوب السودان لا يزال على كف عفريت.