فى نهار يوم الثلاثاء – الثلاثين من يونيو 2020 – ورُغم جائحة الكورونا ومخاطرها المعروفة للجميع، خرجت الجماهيرالشعبية السودانية فى العاصمة والولايات، فى مواكب ومسيرات وتظاهرات حاشدة، وحِراك جديد، فى ذكرى 30 يونيو 2019 – ذلكم اليومٌ المشهود – غيرعائبة بنصح الناصحين، واشفاق المشفقين، وتردُّد المترددين، وكيد الكائدين، لتُسمع صوتها الجهور للسلطة والحكومة الانتقالية، وللعالم أجمع، وهى تُطالب بتسريع مستحقّات العدالة، والقصاص للشهداء، واستكمال هياكل السلطة الانتقالية، وانجاز السلام العادل، وغيرها من المطلوبات فى السياسة والاقتصاد، بما فى ذلك، الضائقة المعيشية، وهى رسالة واضحة ومعلومة للجميع – " ثُوّراً وتُكنقراط وفلول وجالسين على رصيف الانتظار" – مفادها، أنّ جذوة ثورة ديسمبر 2019، السودانية، مازالت مُتّقدة، وأنّ شعلتها بائنة ومضيئة لطريق الثوار والثائرات، وأنّ اضاعة سنة كاملة – من عمر الثورة – فى التلكُّؤ والمماطلة و" تقديم رِجل وتأخير أُخرى "، غير مقبول للثوّار والثائرات – مهما كانت الأسباب والمسبّبات والمبرّرات والتبريرات – وهم/ن ( اصحاب المصلحة الحقيقة ) و( أولياء دم الثورة )، ووقودها الحقيقى الذى لا – ولم ولن – ينضب، فيما مضى من خطوات وتضحيات، وما سيأتى من مفاجئات وتداعيات فى مقبل الايّام، وأنّ الثوار والثائرات، مازالوا على قدر كل التحدّيات، وهذا رصيد كبير، لمن أراد أن يقرأ ويستوعب دروس وعِبر تاريخ ومستقبل الثورات فى السودان !.
فى الثلاثين من يونيو2020، قالت الجماهير الشعبية كلمتها وارسلت رسالتها – بوضوح – أنّ خروجها للشارع، ليس لاسقاط الحكومة لأنّها ببساطة هى " حكومة الثورة "، وإن اختلف الثوار والثائرات فى تقييم أدائهل، ولكنّه خروج مشروع للمناداة والمطالبة بتصحيح المسار، أى تصحيح مسار الثورة – واستكمال تحقيق شعاراتها الراسخة فى الأذهان والقلوب (( حرية .. سلام .. وعدالة ))، وهذا يعنى بلغةٍ أُخرى – وفى لغات أهل المذاهب والمدارس الفكرية المختلفة، ودارسى حركة تطوُّرالمجتمعات – أنّ مرحلةً جديدةً من النضال الجماهيرى السلمى، فى السودان، قد بدأت تتشكّل ملامحها، وأنّ فرزاً طبقيّاً واجتماعياً واقتصاديّاً وسياسيّاً – جديداً – قد حدث، وأنّ قطار الثورة السودانية، لن يتوقّف – أبداً- فى محطة " اسقاط النظام القديم، مع الابقاء على آلياته ونظريته فى الحكم، ولجنته الأمنية، ووسائله وأساليبه فى تغييب الجماهير من صناعة القرار"، وهذا هو الدرس الذى يجب أن يستوعبه الجميع !.
هاهى لجان المقاومة والتغيير، وتنسيقياتها المُنتشرة فى كل بقاع السودان، تربط كفاحها المبدئى ونضالها الجسور مع أُسرالشهداء، مُبشّرةً بميلاد تحالف نوعى جديد وفريد، يُمكن تسميته اختصاراً بـ( تحالف الحقوق وتصحيح المسار)، وأصبح من المؤكّد، أنّ هذا التحالف الاستراتيجى الجديد، سينشأ ويتكوّن وسيبقى – مع من أراد ومن رغِب من القوى السياسية وقوى المجتمع المدنى الأُخرى – العين الساهرة على حقوق الشهداء، وتطبيب آلام الجرحى، وتقصير أمد معاناة المفقودين، وهى ملفّات " حقوقية " كاملة الدسم، وساخنة، تنتظر رد الحقوق لأهلها، وانهاء المظالم التاريخية والحالية، وتحقيق الانصاف والعدالة، ولن تنتهى أو تسقط، بالتقادم أوالنسيان، وهذا يعنى أنّ ملف العدالة ( الوطنية والدولية والانتقالية )، سيبقى فى مقدّمة – وقلب – أجندة الثورة، وملفّات المطالبة بحقوق الناس، وانصاف الضحايا، ومساءلة الجناة، وابراء الجراح، مضافاً إلى ذلك، قضايا السلام والتنمية والاقتصاد والسياسة، على مختلف مستوياتها الكُليّة والجزئية !.
يحدث هذا، وأمام الحكومة وصُنّاع القرار، اختيار صعب بين طريقين للتنمية، طريق جرّبناه وسرنا فيه منذ الاستقلال، وعرفنا حصاده المُر، افقاراً وتخلُّفاً وحروباً ودمار، وآخر تنشده الجماهير الشعبية لبناء السودان الجديد ( سودان الحرية والعدالة والسلام )، ومسارين قديم وجديد فى التعامل مع الصعوبات والتحدّيات، ومنهجين للتعامل مع الضائقة الاقتصادية، التى ضربت آثارها كل الطبقات، والفئات الإجتماعية، مع فارق حجم ونوع التأثير.
فى هذه الأجواء المُلبّدة بالغيوم، وفى الوقت الذى تزداد فيه معاناة الجماهير الشعبية فى العاصمة والأقاليم، وفى بؤس الحياة فى معسكرات النزوح الداخلى، ومرارة الانتظار المُمل فى دول الجوار، مازالت مفوضات ( جوبا ) تُراوح مكانها، وتتعثّر خطواتها بسبب جدل " نِسب " المجلس التشريعى، ونقاشات توزيع وتخصيص حقائب الوزارات، وتفاهمات تعيين حُكّام الولايات، واعادة تسكين مقاعد المجلس السيادى، فيما يبقى – حتّى الآن – ملف الترتيبات الأمنية، بما فيه من تعقيدات توحيد ودمج وتنظيم الجيوش وتفكيك المليشيات، غير معروف مصيره، وغير معلوم أمرتدبيره، وأوان الاتفاق النهائى عليه، وهو ملف كبير وخطير وهام فى مستقبل الحكم والاستقرار السياسى فى السودان !.
نعم، يحدث كل هذا التباطوء والتلكؤ من النُخب السياسية والعسكرية، الحاكمة والمتطلّعة للحكم، وفى مقابل ذلك، نجد – فى الضفة الاُخرى من النهر – صبر وتفاؤل الجماهير الشعبية السودانية، ورغبتها الجادة والصادقة والمخلصة فى تحقيق سلام مستدام، يخلّصها من عذابات الاحتراب والاقتتال والنزاعات المسلّحة، التى أهلكت الضرع، وأفسدت الزرع، واعاقت التنمية المستدامة، المنشودة لاستقرار السودان!.
نقول كل هذا، ونلحظ ونرصد – مع المراقبين الجادّين – هذه الأيّام، ازدياد وتيرة التسريبات الاعلامية، التى يطلقها البعض، لجس نبض الجماهير الشعبية، ولشراء الوقت، ولاغراق الساحة السياسية الملتهبة، بالعديد من التصوّرات الفطيرة، التى يعنى بها أصحابها تمديد فترة حالة الترقُّب والسيولة السياسية والأمنية، للانقضاض على الثورة، وشعاراتها، والالتفاف على أهدافها الواضحة، ولكن، سبق السيف العزل، فقد وضح، واتّضح أكثر من أىّ وقتٍ مضى، ومن خروج الجماهير الشعبية للشوارع – التى لا تخون – فى 30 يونيو 2020، أنّ محاولات حرف الثورة عن مقاصدها، وتغييرمساراتها وشعاراتها، لن تنجح، مهما كانت التضحيات، وقد تأكّد أن الشعب السودانى العظيم – صانع المعجزات ومفجّر الثورات – لقادرعلى السير فى طريق الأشواك والألغام، ليمضى بثورته للأمام، مهما كانت التحدّيات، وأنّ هذا – الشعب العظيم والكريم – يعرف – تماماً – طريق خلاصه المنشود، معتمداً على قدراته الذاتية، والموضوعية، لتحقيق كامل سيادته على أرضه واستقلال قراره، وهو شعب جدير بالحياة، ورصيد كبير، لمن أراد أن يستثمر – حقيقةً – فى الديمقراطية والسلام المستدامين، وهذا حديث يطول، يا أولى الألباب !.
نص شعرى : ما حكّ جلدك مثل ظفرك ،،، فتولّ أنت جميع أمرك … وإذا قصدّت لحاجةٍ ،،، فاقصد لمعترفٍ بقدرك (( محمد بن إدريس الشافعى ))
فيصل الباقر