يبدو ان قادة حزب المؤتمر الوطني في دولة السودان المجاورة ، قد إستبدت بهم (هَاشِمِيَتِهُمْ) حتي تناسوا بالتمام ان المفاوضات التي تستضيفها بلادهم حاليا ، ليست إلا ذات المبادرة القديمة المتجددة التي ترعاها الهيئة الحكومية للتنمية بشرق افريقيا (الايغاد) ، و التي ترمي لإعادة إحياء إتفاق السلام الذي جرى توقيعه بين الحكومة و المعارضة المسلحة ، وبقية الأحزاب الأخرى في أغسطس من العام 2015، بعد أن تعرض لنكسة كبيرة إستوجبت إعادته مرة اخرى وهو لايزال بعد في رمقه الأخير، إلى دورة الحياة التي كاد يفارقها من جديد، حيث تعطلت العديد من بنوده التي إستعصت على التنفيذ نسبة لغياب بعض الشركاء الرئيسيين ، الذين بدون مشاركتهم لن يصبح هناك معنى حقيقي لاتفاق السلام ، لأن السلام يصنع في الأساس مع الأعداء وليس الأصدقاء أو ذوى القربى و المؤلفة قلوبهم.
إن المبادرة التي دفعت بها الخرطوم قبلاً ، خلال زيارة وزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد ، ومدير جهاز أمنها الوطني صلاح عبد الله قوش للعاصمة جوبا في شهر رمضان المنصرم ، كانت تهدف لعقد لقاء قمة ثنائي يجمع مابين الرئيس كير وزعيم المعارضة ريك مشار الذي كان لايزال رهين محبسه القسري بجنوب افريقيا ، وقد جاءت مبادرة البشير مُختَطِفَة لتحرك كيني سابق كان يتزعمه المرشح الرئاسي السابق و المعارض الأبرز رائيلا أودِينغَا ، بعد زيارة سرية سجلها للبلاد عرض فيها علي الرئيس كير لقاء مباشرا بينه ومشار ، ولم يكن هناك تفسير آخر مفهوم لمبادرة الرئيس البشير تلك إلا أنها كانت ترمي إلي محاولة ايجاد مخرج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها بلاده في شتي أوجه الحياة ، حيث بدأت الضغوط الداخلية تتزايد عليه وتهدد عرشه المهتز بالتداعى ، فقرر الإستلاذة بجوبا ، لكنه ترفعا عن الصغائر ولعزة في نفسه آثر أن يتخذ من تلك المبادرة مدخلا مناسبا لحل الأزمة التي أحاطت بالسودان ، بعد أن فقد الدعم و التأييد الخليجي نسبة للتضارب الكبير الذي إعترى مواقف السودان حيال الأزمة الخليجية ،وماقدت إليه من حصار دولة قطر بجانب مشاركة السودان بقوات عسكرية في حرب اليمن ،التي هي عبارة عن حرب وكالة قصد منها الحصول علي الدعم المالى من المملكة العربية السعودية ، مع الاحتفاظ في ذات الوقت بنفس العلاقة مع دولة قطر وضمان تدفق مساعداتها وقروضها علي الخرطوم ، كيف يمكن للسودان ان يخدم سيدين في آن واحد ، هذا منطق لاتخدمه اي قاعدة اخلاقية بالمرة.
كانت الخرطوم ترغب في حل ثنائي فقط ، وتسوية قائمة علي المحموعات الرئيسية الحاملة للسلاح ، دون غيرها ، باعتبارها تمثل الثقل الإجتماعي وتتعامل مع الفروض الإستباقية التي تحمٌل الصراع الدائر وجهاً واحد ذو طابع إثني ، وتلغي كافة التجليات الأُخرى للنزاع و الأزمة الوطنية الشاملة التي إجتاحت البلاد ، وهي بذلك لم تستفيد حتي من عثرات اتفاقية نيفاشا 2005 ، التي حملت إسم (السلام الشامل) في وقت لم تستصحب معها الأزمة الدائرة في إقليم دارفور ، والتي قادت إلى تعقيد أوضاع الصراع داخل الكيان السوداني بأكمله ، واصبحت ازمة دارفور هي الأزمة الأكثر الحاحا لأن تجلياتها المستقبلية ستكون أشد وخٌامةً من النزاع الدائر حاليا في جبال النوبة وجنوب النيل الازرق حيث وضعت لهما اتفاقية نيفاشا الأساس الذي يمكن إعتماده في توصيفها ومن ثم البحث عن سبل الحل الممكنة ، إذاً لماذا يطالب (الوطني) جنوب السودان بأن يرد الدين ويقوم بمبادرة شبيهة بما قامت به الخرطوم في التوسط عبر (الإيغاد) لحل الأزمة السياسية الراهنة ، والتي تركت عددا لايحصى من القضايا الحيوية وهي معلقة على (مشجب) المصالح المشتركة بين البلدين ، من بينها قضية (أبيي) وكافياكنجي وهجليج التي قضت محكمة مولانا خلف الله الرشيد إبان عهد جعفر نميري بتبعيتهما لجنوب السودان ، ودونكم الوثائق ووقائع قرار الحكم القابعة في أضابير القضاء السوداني ، وذَكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
إذا قدر لجوبا أن تبذل أى جهد أو مسعى للتوسط في حل الأزمة السياسية و الحرب الدائرة في منطقتى جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ، فانها لن تكون رداً لدين أو جميل قدمته لها الخرطوم ، لأن تلك الأزمة التي تشهدها المنطقتين لم تنزلق بكل تأكيد من رحم الغيم ، وانما كانت نتاجا لتجاوز المؤتمر الوطني تنفيذ البرتوكولات التي منحتهما حق المشورة الشعبية أُسوة بحق تقرير المصير لجنوب السودان وأبيي ، والأفضل في تقديرأى شخص حصيف أن يأتي ذلك التكليف من الوساطة الإفريقية نفسها أو هيئة الإيغاد التي تتمتع البلدين بعضويتها حاليا ، فكيف يستطيع الوطني أن يزعم نجاح (جوديته) التي تؤمن له مخرجا من وطأة الازمة التي تعينه جوبا للخروج منها عبر القبول بتضمين إتفاقية النفط ضمن بنود التسوية الخاصة بالفرقاء الجنوبيين ، وهل كان المؤتمر الوطنى يستطيع أن يصمد اذا تغاضى أطراف الصراع عن وساطتها قبل ان تسكت الهمهمات القديمة بان الخرطوم ليست بالمكان المحايد لاستضافة المباحثات ، لا أعتقد ذلك بتاتا.
في الختام ، إن أرادت الخرطوم أن تضمن نجاح جولة التفاوض الحالية التي تستضيفها تحت مظلة الإيغاد ، ألٌا تعبث بأطراف التفاوض وان تكون اكثر حرصا علي وحدة المعارضة المشاركة في طاولة النقاش ، إذ تعد تلك هي المرة الأولي التي تقع فيها إنشقاقات لاأطراف تتفاوض حول تسوية النزاع والعمل من أجل وقف الحرب وإعادة السلام و الإستقرار ، فتلك ظاهرة خرطومية بإمتياز لم تقع في اي من الجولات السابقة ، فهذا أيضاً يعد نوعاً من رد الدٌين عبر إستدامة السلام ، مقابل إستدامة المصالح الحيوية للسودان عبر دعم عملية الإستقرار في جنوب السودان .