تأتي أهمية الجولة الثانية التي يقوم بها رئيس الجمهورية في إقليم بحر الغزال هذه المرة لانها تجئ في ظروف مختلفة كلياً عن الجولة الاولي في العام 2012 حينما كان التوتر السياسي بين قيادات الحركة الشعبية في أوجه ، ذلك لانها تجئ بعد أن شهدت البلاد حرباً ضروساً ، قضت على الأخضر و اليابس ، وشردت المدنيين العزل من مناطق اقامتهم الاصلية ، ودفعت بهم قسراً الي دول الجوار او معسكرات الحماية التابعة للأمم المتحدة ، في سابقة تعد الأولي من نوعها ، اذ لم يضطر الجنوبيين حتي خلال ايام الحرب الاهلية الطويلة الي خاضتها الحركة الشعبية ضد الانظمة السودانية الي الفرار لمعسكرات حماية داخل بلدهم ، وقد إمتدت التاثيرات غير المباشرة لتلك الحرب لإقليم بحر الغزال الذي شهد عبور الملايين من المواطنين الي داخل الاراضي السودانية بسبب أزمة نقص الغذاء (المجاعة) ، والتي تعد واحدة من التاثيرات غير المباشرة للحرب ان قلنا بان المنطقة لم تشهد أعمال عنف مسلح بنفس الدرجة التي شهدتها بقية أجزاء البلاد في الاستوائية واعالي النيل.
من خلال المطالب التي رفعها المواطنين في المناطق التي ابتدر بها الرئيس جولته ، يتضح ان هناك أزمة كبيرة يعاني منها المواطنين في تلك الولايات ، تتمثل في غياب الخدمات الاساسية مثل الطرق و المدارس و المشافي ، والتي ادركوا بانها لن تتحقق الا عن طريق السلام وعودة الاستقرار ، وان الحكومة مهما وعدت فانها لن تستطيع الايفاء بتلك الوعود دون ان تبدأ في التنفيذ الجاد و المخلص لاتفاقية السلام ، وهو ما أشار اليه بعض قيادات الادارة الاهلية الذين طالبوا الرئيس بضرورة تحقيق المصالحة على مستوي القيادة السياسية للدولة ، بين الحكومة و المعارضة ، وبالتحديد بينه و الدكتور ريك مشار ، لتجاوز كافة الخلافات التي تعيق نمو وتقدم وتطور البلاد ، كذلك رفع الناس العديد من الشكاوي المرتبطة بالمشاكل الناجمة عن ترسيم الحدود الادارية للولايات الجديدة ، والتي تسببت في توتر العلاقات بين المجتمعات المحلية التي كانت تنعم بهدوء نسبي قبل الاعلان عنها ، وتلك مسألة هامة وضرورية في تقديري لانها جاءت من المواطنين أنفسهم ، وأظن ان اتفاق السلام قد تطرق الي كيفية تجاوزها بصورة جذرية عبر ترسيم حدود الولايات و الاستفتاء على عددها بحسب رغبة الناس أنفسهم .
من أهم القضايا التي تتطلب حلولاً عاجلة وناجعة في هذه الزيارة هي مسألة خلو المدن و الارياف من المواطنين الذين هجروها بسبب الجوع ونقص الخدمات الضرورية ، فلابد من خطة وبرنامج يهدف لاعادة الناس لمناطقهم الاصلية ، فاتفاق السلام وحده لن يعيدهم اذا لم تستصحبه تطمينات واضحة بعدم عودة الحرب مرة أخرى ، الحرب التي استنزفت طاقات شباب المنطقة خلال السنوات الخمس المنصرمة ، تلك الحرب التي لابقرة لهم فيها ولاعجل ، و التي شغلت الناس عن نشاطهم الزراعي ورعاية ثروتهم الحيوانية التي نزحت هي الاخري للمنطقة الاستوائية خوفا من تفشي ثقافة النهب المسلح التي يستخدم فيها الرعاة الاسلحة الاوتوماتيكية ، تلك الاسلحة التي حصلوا عليها في بداية الاحداث بدعوى حماية أنفسهم من مصادر رسمية بعد ان تم تجييش غالبية الشباب ، بحسب اعترافات مسئولين حكوميين ، ولم تنجح معها حملة جمع السلاح الاخيرة . فبدون عودة المواطنين الي ديارهم ، لاستئناف حياتهم السابقة يصعب تنفيذ العديد من بنود اتفاقية السلام خاصة تلك التي تتطلب مشاركتهم الفاعلة ، خاصة في موضوع الولايات و الاستفتاء المزمع اجرائه لتحديد عددها، وكذلك تتضاءل فرص الوصول الي نتائج مرضية في الانتخابات المتوقع اجراؤها بنهاية الفترة الانتقالية ، نسبة لما تمثلة المنطقة من ثقل انتخابي كبيرفي المستقبل.
يمثل الاعتذار الذي تقدم به رئيس الجمهورية لمواطني ولاية واو عن المعاناة التي سببتها لهم حرب السنوات الخمس ، خطوة مهمة في سبيل إستعادة الثقة و فتح صفحة جديدة مع المواطنين ، وهذا في تقديري يتطلب اولا تطبيق توصيات لجنة ريك قاي التي تم تكوينها قبل عامين للتقصي في الاحداث التي شهدتها المدينة ، والتي افضت الي فرار المواطنين الي معسكر البعثة الأممية طلبا للحماية ، فتلك تعد الخطوة الاولي لإجراء مصالحة حقيقة بين مواطني مدينة واو التي تمثل العاصمة الرمزية لاقليم بحر الغزال حتي الآن ، هذا الي جانب الاخذ في الاعتبار مخرجات المؤتمر الاقليمي للجنة الحوار الوطني الذي استضافته المدينة الاسبوع المنصرم ، حتي يتسني للمدنيين العودة الي بيوتهم ومزاولة حياتهم بصورة عادية دونما خوف .
ان تمليك اتفاقية السلام لمواطني اقليم بحر الغزال في هذه الجولة امر في غاية الأهمية ، وكذلك الاستماع لمشاكلهم بشكل مباشر يكشف المفارقة مابين الواقع و التقارير المنمقة التي رفعها المسئولين عن حقيقة الاوضاع على الأرض ، فنجاح اتفاقية السلام يعتمد على مستوي الرضى الشعبي ، ومخاطبة مخاوفهم الحقيقية التي لم تتطرق لها الاتفاقية بالتفصيل ، عليه نأمل ان يتم الأخذ بتلك التوصيات من كافة اقاليم جنوب السودان التي ستشهد زيارات وجولات مماثلة لرئيس الجمهورية في القريب العاجل.