نشر موقع راديو تمازُج بتاريخ 23 فبراير، تصريحاتٍ لممثلي أطراف الحكومة الانتقالية بمناسبة مرور عام على إنشاء مؤسسة رئاسة الجمهورية، وبدء أعمال الحكومة الانتقالية. وعزا المتحدثون الصعوبات التي تعترض عملية تنفيذ الاتفاقية إلى ثلاثة أسبابِ، الأزمة المالية، غياب الإرادة السياسية، و جائحة كورونا.
وللوهلة الأولى قد يظن أي متابع لأحوال البلاد بأن هذا الزعم حَقِيقِياً، بيد أن التغلب عليها لم يمكن يستوجب كل هذه الوقت، قياسا باستهلاك أطراف الاتفاقية وقتهم في مناورات تنظيمية والاضطرار لتأجيل الجداول الزمنية التنفيذية لأكثر من مرةٍ. لا نسعى في هذا المقال إلى طرح تساؤلات عن التقدم في عملية السلام التي جاءت في التمهيد السابق، بل غاية كاتب هذه السطور إبداء الرأي بشأن التعامل مع الجائحة، السبب الثالث في إعاقة أداء شركاء الحكومة، وماهية خطط وزارة الصحة واللجنة العليا إزاء تزايد الإصابات وفق المعلومات الصادرة عن الوزارة.
كُنت قد نوهت في تدوينه سابقة على حسابي بالفيسبوك اهتمامي بمتابعة تلقي بعض الدول لقاح فيروس كورونا بعد مفاوضاتٍ مع البنك الدولي في إطار مشروع دعم القطاع الصحي للدول. وبالأمس القريب حملت الأخبار إلينا تأكيد وكيل وزارة الصحة الاتحادية اعتمادهم لقاح استرازينيكا (AstraZeneca) وهي من إنتاج وهي شركة أدوية بريطانية – سويدية. دفعني التفكير في أحوال قطاعنا الصحي، كيف ستقوم الوزارة بإدارة حملة التطعيم، ما هي الآلية التي ستتبعها في تحديد أولوية تلقي اللقاح، وهل تستأثر العاصمة وحدها أم يتكرم المسؤولين بإعطاء الولايات نصبيها من اللقاح. هل تتوفر البلاد على بيئة اللوجستية المطلوبة لحفظ اللقاح أم لا.
بالطبع، هدفي من التساؤلات السابقة ليس للتقليل من عمل اللجنة، بل من باب النصح لتفادي ارتكاب ذات الاخطاء التي صاحبت طبيعة عملها، واقتصار دورها على إصدار القرارات الروتينية الإدارية، دون توضيح العلاقة السببية بين فشل في تطبيق الإجراءات الاحترازية بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، الأمر الذي يضعف من تعاون المجتمع مع الدولة.
هذا التباعد بين الدولة والمجتمع له ما يبرره، وللشعب أسبابه الموضوعية في التشكيك في كل ما تأتي به الحكومة من إجراءات. كُتبنا مقالاتٍ سابقة عن آثار الجائحة قبيل أن يخرج علينا المتحدث الرسمي باسم الحكومة قبل أيام و تذكيرنا لماذا نشهد هذا التراجع. بدورنا لا نملُ من تكرار الحديث عن فشل المنظومة الحاكمة من إعلاء حياة الشعب في سلم أولوياتها، فبالأمس القريب أفاد العاملون في مستشفى جوبا التعليمي – أكبر مستشفيات البلاد – التي تقع على مقربة من مكاتب رئاسة الجمهورية، حيث أكدت إدارة المستشفى بأنهم لا زالوا يعتمدون على المنح الخارجية في تسيير أعمال المستشفى، فالميزانية المخصصة من الحكومة لا تكفي، كما أن المرتبات تتأخر لأشهر عدة، وإن أتت، فهي لا تصمد يومًا واحد بفعل التضخم والانهيار الاقتصادي العام.
هذه الحقائق تسندها لغة الأرقام المحايدة، وهو ميدان يتحاشى جميع المسؤولين الحكوميين الخوض فيه، مع العلم بأن دستور الدولة هؤلاء الحكومة بتمليكها للشعب، وهو لم يحدث في كل المرات. أيا كان الأمر، دأبت النخبة على التهرب من المسؤولية بعدم الإقرار بفشلها، وهو أمر ذو بعد تاريخي يمكن إرجاعه إلى أزمان حرب التحرير – كما دونت الأدبيات- ظل نهج قادة حرب التحرير التنصل من الأخطاء، بعكس مسلكهم عند الاحتفاء بالإنجازات وتضخيمها.
لذا يخطئ من يظن أن صناع القرار في البلاد يعيرون أدنى اهتمام للمسؤوليات الاجتماعية والخدمية الوظيفية الملقاة على عاتقهم الآن، إذ لم يعترفوا الفشل، فما هم فاعلون بمستقبلنا؟ لم نرى منهم أي مراجعة دقيقة لأخطاء السياسات منذ بدء تفشي الجائحة في البلاد، علما بأن بلادًا أغنى ومتقدمة منا بمراحل اضطرت لإعادة النظر في ادائها، بما فيه الجوانب الاقتصادية وترشيد أوجه الصرف الحكومي، في الوقت ذاته، زادت هذه الحكومات من الاعتمادات المالية للقطاع الخدمي، الصحة تحديدًا كإحدى التدابير لمكافحة الجائحة.
على الرغم من إدراكنا لحجم الفوارق. مع ذلك، لا يمنع حكومتنا من وضع سياسات بديلة، ووضع الأولويات واتخاذ العبرة منها في المستقبل. هذا ما يمسي ارتباط التخطيط الاستراتيجي بالأبحاث لدراسة تداعيات الوباء، بوضع الخطط تدفع الدولة بأجهزتها نحو تحقيقها وفق جداولها الزمنية المعلنة، كمبدأ معمول به عند التخطيط الاستراتيجي أو الخطة الاستراتيجية التنموية تعمل بها الدول التي تريد تحقيق رفاهية شعبها، وتحقيق مستوًا متقدمًا من إيصال التنمية البشرية المستدامة، والنهوض بالغايات والأهداف إلى مراميها المرسومة. لذلك غالبًا ما تضع الدول خطة وطنية قصيرة، متوسطة، وطويلة المدى، وتراقب الحكومة مسار الالتزام بهذه الخطط، أي لا تكون مجرد حبرا على ورق مثل حالتنا في الخطة التي وضعتها الحكومة ونشرتها باسم خطة التنمية الوطنية 2040. هيأ لنا وجودنا في الخليج رؤية نماذج من مشاريع التخطيط، وفي الوقت ذات، رؤية الاتساق ما بين ما هو مخطط له بالواقع المنجز، أي الربط بين النظري والتطبيقي كما يُقال في عوالم الأكاديما. يعزو كثيرين من دارسي هذه المنطقة إلى تبنى هذه الدول في أعلى مستويات قيادتها السياسية منهجية السياسات العامة والتحلي بالإرادة السياسية الداعمة للمشروع التنموي الوطني.
يستحضرني هنا في بداية الجائحة الانتقال الكامل إلى الحكومة الإلكترونية وتوجيه المؤسسات بتقديم خدماتها آليا، حيث بات بإمكان المرء بضغطة واحدة على الهاتف المحمول إنجاز معظم معاملاته الشخصية والتجارية. نقول هذا، ونحن ندرك بأننا لم نخرج بعد من دائرة تمكين الذات نحو تمكين المجتمع عامةً، هذا ما قد يقوله أي مواطن، ويتفق الكاتب هنا بالاعتراف بهذا الواقع، غير أن الصحيح هو لولا التخطيط الجيد لما وصلت دول الخليج إلى ما هي عليه الآن، نتائج الاستثمار في شيئين، البنى التحتية والعنصر البشري، (لنا عودة للحديث عن هذه التجربة لاحقا).
المقصد من ذكر هذا المثال هو ما حملنا لعنونة جزئية المقال بغياب التخطيط التنموي، التنبيه بخطورة أخطاء الحاضر على المستقبل، حتى لا نحجز لدولتنا مقعدا دائما في اذيل مؤشرات الفشل، وفي الوقت الذي نملك فيه فرص التعلّم من تجربة العقد والنصف الماضية والمضي قدمًا.
مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج