رغم مضي أكثر من ثلاثة أشهر على بدء تنفيذ إتفاقية السلام المنشطة، إلا أن الواقع يشير إلى تباطؤ واضح في تطبيق بنودها مما أقلق الوسطاء و الداعمين المحتملين. كل ما كان مفترضاً أن ينجز حسب إطار زمني محدد، لم يتم إنجازه. كما أن النظام في جوبا لم يساعد في تبديد أجواء الشك المخيمة على الساحة السياسية. فمن البديهي أن إقدام النظام على رفع حالة الطواريء، و التي تشكل بنداً من بنود الإتفاقية، سيساهم بشكل كبير في بناء الثقة بين الفرقاء مما يشجع المترددين منهم في الإنخراط بصدق في العمل بما نصت عليها بنود الإتفاقية.
و لكن الملفت للنظر هو تزايد أعداد المهرولين إلى جوبا من دون ضمانات حقيقية لأمنهم. إن ما يحدث في هذا الصعيد يدعو إلى العجب. فسيناريو يوليو عام ٢٠١٦ لا يزال في الأذهان و قديماً قيل المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين. و من سخريات القدر،فإن أول المهرولين هو الدكتور رياك مشار و الذي ذاق الأمرين حينما ولى الإدبار من جوبا إلى الحدود مع جمهورية الكنغو الديمقراطية خلال المطاردة الشهيرة التي دامت أربعون يوماً. فلما الإستعجال و خاصة هناك إطار زمني محدد لتنفيذ كل خطوة من خطوات الإتفاقية؟ على ما يبدو فإن الأمر برمته ما هو إلا محاولة لإيهام العالم بأن كل شيء يسير على ما يرام بشأن تطبيق الإتفاقية، و أن العلاقات بين الفرقاء قد أصبحت سمناً على عسل مما يدفع المانحين إلى إرسال الاموال. و قد رأينا كيف أن الأمر قد بلغ درجة إستجداء الدول المانحة لتمويل الإتفاقية. و قيل زوراً و بهتاناً بأن الذهاب إلى جوبا مبكراً سيعضد بناء الثقة بين الفرقاء مما يضمن التطبيق السلس لكافة بنود الإتفاقية.
هكذا برر رياك مشار رحلته الخاطفة إلى جوبا و التى لم تدم يوماً كاملاً. لم يكن بمقدوره تفويت فرصة العودة إلى الخرطوم على متن طائرة الرئيس عمر البشير. فمعركة قصر الرئاسة في عام ٢٠١٦ ما زالت ماثلة في ذهنه. كما أن هناك في أوساط جنرلات كير من لا يزال يستغرب إفلاته من قبضتهم في ذلك الوقت؟ لقد ذهب رياك مشار إلى جوبا بينما سكرتيره الصحفي السابق جيمس قاديت داك يقبع في السجن بعد أن أصدرت محكمة صورية حكماً بالإعدام ضده بتهمة الخيانة العظمى. هناك العديد من السجناء السياسيين و أسرى الحرب الذين لم يتم إطلاق سراحهم. لم يجرؤ رياك مشار حتى على زيارة أتباعه و مؤيديه في معسكرات النازحين داخل جوبا. بل أن نائبه و الذي تبعه في القدوم إلى جوبا لم يتمكن من مقابلة أهله و أصدقائه. فهل ما أوردناه يشبه بناءالثقة في شيء؟
إلغاء حالة الطوارىء أمر مفصلي و ذو أهمية كبرى. فكيف يتأتى بناء الثقة في ظل قانون يسمح للرئيس بعزل و تنصيب من يشاء و إعتقال معارضيه و إيداعهم السجون. فالقرارات الجمهورية لن تنقطع عن الصدور. و قد أثبت كير مراراً ولعه في تسيير دفة الحكم من خلال مثل تلك الأوامر الفوقية. و في حقيقة الأمر فإن كير يستطيع لو أراد عزل رياك مشار و إستبداله بشخص آخر مثل ما حدث عقب إندلاع القتال في يوليو عام ٢٠١٦. إن الملأ يتذكرون كيف تم إقصائه عن منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية و الأتيان بتعبان دينق قاي ليشغل المنصب. و لكن المعضلة الحقيقية تكمن فى رفض النظام الإلتزام بتجميع قواته و الإصرار على إقتصار ذلك على قوات المعارضة. و هذا يعني أن الأمر لا يعدو من كونه إستيعاب لقوات المعارضة في جيش الرئيس كير. و في هذه الحالة سيتحكم النظام في أعداد و رتب القوات المستوعبة و توزيعها داخل جيش كير بشكل لا يغير من الوضع الحالي. و على هذا النمط يصبح تكوين جيش وطني محترف حلماً بعيد المنال. فبدلاً من الصمود خلف المطالب المشروعة و التى تستند على ما جاءت في إتفاقية السلام المنشطة، تخلى الموقعون على الإتفاقية عن مواقفهم السابقة و شرعوا في الدخول في تفاهمات جانبية مع النظام خلف الكواليس مما تسببت في حدوث إنشقاقات في صفوفها.
زعماء تحالف المعارضة لجنوب السودان (سوا) كانوا من ضمن ركاب طائرة الرئيس عمر البشير. و قد طابت لهم الإقامة في جوبا فأطالوا البقاء مما جر عليهم إتهامات بإبرام إتفاقات سرية مع النظام بغرض تليين مواقف المعارضة لتمرير بعض البنود الشائكة في الإتفاقية، و أيضاً إقصاء إحدى الشخصيات الغير مرغوبة للنظام من تقلد منصب نائب الرئيس. هذا، و قد خرج علينا الكولونيل باكاسورو، الحاكم السابق لولاية غرب الإستوائية، بعد أن قابل الرئيس كير بتصريح للصحافة يقول فيه بأن هناك تحسناً في المناخ السياسي في البلاد. سبحان مغير الأحوال، هذا الرجل كان بالأمس القريب ينتقد النظام بشدة لكتم الحريات و تكميم الأفواه و غياب الديمقراطية. يبدو أن إستقباله في قصر الرئاسة و إستضافته لمدة ثلاثة أسابيع قد فعل فيه فعل السحر مما جعله يغير من قناعاته السياسية بشكل لا مثيل له.
رحلة جوبا لم تجلب على تحالف المعارضة (سوا) إلا الكوارث. فقد هبت عليها عاصفة هوجاء من الإنشقاقات أضعفت هياكلها و أثرت سلباً على وزنها السياسي. و مما زاد الطين بلة، فإنه إثر عملية غير موفقة لإختيار رئيس جديد للمجموعة، إنشق التحالف إلى شقين – شق برئاسة قابريال شانقسون زعيم الحزب الفيدرالي الديمقراطي و شق آخر برئاسة الجنرال بيتر قاديت، زعيم الحركة المتحدة لجنوب السودان . و تبع ذلك نزاع مريرعلى تمثيل (سوا) في الإيقاد و إتفاقية السلام المنشطة مصحوباً بإنشقاقات أخرى في الحركات المكونة للتحالف. و في هذا الجو من الفوضى و البلبلة، وجد النصابون و من يعانون من البطالة الفرصة سانحة لإدعاء الإنشقاق عن بعض الحركات إنحيازاً للسلام ووصم القيادات الأصلية بأنها تروج للحرب و تقف ضد السلام. بلا شك فإن الخلاف داخل (سوا) قد ألحق ضرراً بالغاٌ بمصداقيتها كمعارضة يعتد بها. كما أن الإشاعات و ما ثبت من تلقي بعض قياداتها للأموال من حكومة جوبا و جهات أخرى لتغيير مواقفها قد أطاحت بسمعتها إلى الحضيض.
رئيس اللجنة الوطنية للشئون الخارجية للحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة، إستيفن بار كوال خاطب جموع المصلين في إحدى كنائس جوبا مشيرأً إلى أن المجتمع الدولي لا يرغب في دعم إتفاقية السلام المنشطة بسبب فقدان الثقة في زعماء جنوب السودان. و أضاف على حد تعبيره، بأن المجتمع الدولي قد رفض هذا السلام و لن يدعمه. فهل باتت قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة تصنف المجتمع الدولي كقوة سالبة تقف ضد السلام كما صنفت رافضي التوقيع على إتفاقية السلام المنشطة؟! و هل رفض التوقيع على إتفاقية مهزوزة للسلام يعني بالضرورة رفض السلام؟!
غير أن الأمر لا يخلو من ما يدخل في باب الطرائف و الهزل و التي أمست صفة ملازمة للحراك السياسي في جنوب السودان. فقد طلب المسئول الكبير من القيادات الدينية الصلاة من أجل المجتمع الدولي لكي تدعم السلام. ما فات على القيادي الكبير هو أن العالم لم يشهد حالة واحدة منذ الأزل وقف فيها غالبيته ضد السلام. دوماً غالبية بنو البشر و الحيوانات أيضاً يجنحون للسلم. و حتى الدول التي إختارت دخول الحرب لا يعدم فيها وجود من يعارضها سبيلاً لحل المشاكل. الجنوح للسلم طبيعة متأصلة في البشر. السبب الحقيقي لعدم تحمس المجتمع الدولي لإتفاقية السلام المنشطة و الذي لا يغفل على المسئول الكبير هو عدم تطرق الإتفاق لجذور المشكلة و إيجاد الحلول لها. فمن الواضح أن حصول حركته على الوظائف و بعض السلطة هو أقصى ما يريده و زملائه في قمة القيادة.
إن ما يروج له قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة و على رأسهم الدكتور رياك مشار من أن السلام قد حل على البلاد، بعيد كل البعد عن الحقيقة و محاولة سافرة لتمكين وضع مأساوي من الإستمرار. فهل الله سيستجيب لصلاة من أجل "سلام" يؤدي إلى تكريس الظلم و الإرهاب؟! إن غداً لناظره قريب.