الفيدرالية كلمة شائعة في الساحة السياسية في جنوب السودان منذ عام ١٩٤٧. لقد طالب الجنوبيون في ذلك الوقت المبكر بالفيدرالية كنظام أمثل لحكم السودان. لاحظوا، أن المطالبة بالفيدرالية حدثت في وقت لم يدرك فيه الجنوبيون قدراً يذكر من التعليم. و لكن نفر منهم تحلوا بقدر عال من الحكمة. رجال أشاوس مثل السلطان لوليك لادو، سلطان ليريا، و بوث ديو و عبد الرحمن سولي و دانيال جومي و ماركو رومي، تفوقوا على حملة الدكتوراة في الحكمة و صواب الرأي. و قد أثبتت الأيام أن هؤلاء الزعماء المبجلين تمتعوا بالنظرة الثاقبة التي مكنتهم من إستقراء المستقبل. فبعد أكثر من نصف قرن من الزمان، ما برحت سفينة الفيدرالية قابعة في ميناءها و لم تغادرها البتة. و السبب في الماضي كان هو رفض الحكومة السودانية للفيدرالية رفضاً باتاً بإعتبارها إنفصالاً مستتراً أو خطوة ستؤدي إلى الإنفصال لا محالة. و لكن ما الذي حصدتها الحكومة السودانية من تطبيق سياسة القبضة الحديدية في جنوب السودان؟ هل أفلحت في صون وحدة البلاد؟ حتى الحكم الذاتي الإقليمي و التى كانت ميزانية جامعة الخرطوم أكبر من ميزانيتها، إستكثروها على الجنوبيين. أليس كان من الممكن أن يظل السودان بلداً واحداً إذا ما إستجابت الحكومة في ذلك الوقت لمطالب الجنوبيين؟ يبدو أن التاريخ يعيد نفسه الآن و لكن في السودان و جنوب السودان على حد سواء. إن ما يدور الآن في دارفور و جنوب كردفان و جنوب النيل الأزرق تكرار لسيناريو الأحداث التي أفضت في آخر المطاف إلى إنفصال جنوب السودان عن السودان.
الوضع في جنوب السودان شبيه بما حدث في السابق في ظل الحكومات السودانية المتعاقبة. فقد كثرت الأصوات المنادية بالفيدرالية، بل أصبح ذلك هو مطلب الأغلبية من سكان البلاد. و لكن حكومة الحركة الشعبية لتحرير السودان قد كشرت عن أنيابها و باتت هذه الرغبة الجماهيرية العارمة، تواجه بالصد و الترهيب من قبل النظام. و قد إنتهجت الحكومة نفس أسلوب الحكومات السودانية في السابق من تكميم للأفواه و التعذيب و التصفية الجسدية لبعض المعارضين. حتى من كانوا يحسبون من غلاة الفيدرالية قبل الإنفصال، أضحوا بين ليلة و ضحاها أشد المعارضين للفيدرالية متحججين بأن ذلك سيؤدي إلى ظهور (كوكورا) من جديد أو الإنفصال. و السؤال الذي يطرح نفسه هو الإنفصال عن أي كيان؟! فهل هذا يعني القبول الضمني بأن هناك فئة مهيمنة تخشى أن تفقد سيطرتها على مقاليد الأمور إذا ما تم تطبيق الفيدرالية؟! و هل و قوفها في وجه هذا المطلب الجماهيري سيكبح جماحها إلى الأبد؟ ألم يفهموا الدرس من إنفصال جنوب السودان عن السودان؟
قبل الدخول في الأسباب الحقيقية لتخوف الحكومة من تطبيق الفيدرالية، أود سرد نبذة مختصرة عن الفيدرالية. الفيدرالية هي نظام حكم يلقى قبولاً متزايداً على مستوى العالم أجمع. فقد طبقت في امريكا منذ أكثر من قرنين من الزمان. كما نجد في امريكا الجنوبية دولاً مثل البرازيل و فنزويلا اللتين طبقتا النظام الفيدرالي بنجاح منذ أكثر من قرن من الزمان. و في آسيا، تقف الهند كمثال يحتذى به لنجاح الحكم الفيدرالي في دول العالم الثالث. فرغم التنوع الكبير في تركيبتها السكانية الهائلة، فقد ظلت الهند تنعم بالأمن و الإستقرار تحت الحكم الفيدرالي منذ الخمسينيات من القرن الماضي. بل أن الهند شهدت طفرة كبيرة في مختلف مجالات التكنولوجيا مما وضعها في مصاف الرواد على نطاق العالم. أضف إلى ذلك فإن الهند هي أكبر الديمقراطيات على وجه الأرض. في اوربا، نجد المانيا و بلجيكا كمثالين عريقين للحكم الفيدرالي الرشيد. أفريقيا ليست بمعزل عن ما يجري في العالم بشأن أنظمة الحكم. فجارتنا الشرقية، أثيوبيا، تحكم بالنظام الفيدرالي و هي الآن الدولة الأسرع نمواً إقتصادياً في أفريقيا. و رغم شوشرة المزايدين و المتشككين من أصحاب المآرب الخفية، فإن نيجيريا في غرب أفريقيا، تحكم بالنظام الفيدرالي منذ عقود من الزمن.
الفكرة الرئيسية في النظام الفيدرالي هي تقاسم سيادة الدولة بين حكومة المركز(الحكومة الفيدرالية) من جانب و حكومات الولايات من جانب آخر. سيادة الدولة في النظام الفيدرالي ليست حكراً للحكومة الفيدرالية بل كما أسلفنا يتم تقاسمها بين المركز و الولايات حسب إتفاق مضمن في دستور الدولة. و بقدر ما يتم من قسمة للسلطات، تتشكل أنواع النظام الفيدرالي. ففي البداية، و بالتحديد منذ أكثر من قرنين من الزمان، كانت هناك ولايات مستقلة في امريكا بعد إستقلالها عن بريطانيا. و قد تكون النظام الفيدرالي نتيجة لسببين: أولاً – خشيت بعض الولايات من تغول بعضها عليها أو التعرض لهجوم قوى أجنبية مما يقوض إستقلالها. هذا من ناحية، و من ناحية أخرى، تخوفت هذه الولايات من فقدان الوحدة بينها مما يضعف الكل أمام القوى الخارجية. و لذا فقد شعر الجميع بالحاجة إلى الحكومة الفيدرالية. و كما ترون فإن الولايات هي أساس الحكم الفيدرالي. ثانياً – هذه الولايات خشيت أيضاً من هيمنة الحكومة الفيدرالية عليها مما يؤدي إلى فقدانها لإستقلالها و لذلك إتجهت إلى الحد من سلطات الحكومة الفيدرالية. و إتفق على أن تكون سلطات المركز (الحكومة الفيدرالية) محدودة بينما تظل سلطات الولايات غير محدودة. و بمعنى آخر، يتم تحديد سلطات المركز بالإتفاق، أما كل ما بقي من السلطات، فتؤول إلى الولايات.
أنواع الفيدرالية: ١. الفيدرالية المزدوجة: في هذا النوع، تحتفظ الحكومة المركزية بسلطات أكثر من كل ولاية على حدة. هذا هو النظام الفيدرالي المتبع في الولايات المتحدة الأمريكية. ٢. الفيدرالية التعاونية: و هنا السلطات موزعة بالتساوي بين المركز و الولايات. لم يتم العمل بها قط و لا يبدو أن ذلك ممكناً لأنه غالباً ما يؤدي إلى طريق مسدود بين المركز و الولايات بشأن سن القوانين و التشريعات. ٣. الفيدرالية المالية: هذا النوع يتسم بأن الجهاز التشريعي للدولة يتحكم في إدارة خزينة الدولة و الشئون المالية، و هكذا تسيطر على مسار سياسات الدولة. و يحدث هذا غالباً خلال الأزمات الإقتصادية. ٤. الفيدرالية الخلاقة: الفكرة الأساسية هي أن الحكومة الفيدرالية هي التي تحدد إحتياجات الولايات و من ثم تقوم بتوفير الخدمات لها. في هذه الحالة الحكومة الفيدرالية تعمل مباشرة مع الولايات لتزويدها بإحتياجاتها. و يشمل ذلك التخطيط المشترك لتحقيق الأهداف المنشودة. ٥. الفيدرالية الجديدة: تم العمل بهذا النوع من الفيدرالية لإرجاع بعض السلطات التي فقدتها الولايات إبان إنفاذ إجراءات الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي. بموجبها إستعادت الحكومات المحلية و حكومات الولايات الحقوق و كسبت بعض السلطات من الحكومة الفيدرالية.
طريقة الحكم: هناك طريقتان للحكم في النظام الفيدرالي و هما النظام الرئاسي و النظام البرلماني. الإختلاف بينهما هو أنه في الأولى الرئيس يتم إنتخابه مباشرة من خلال تصويت الشعب في الإنتخابات بينما في النظام البرلماني يتم إنتخاب رئيس الوزراء من داخل البرلمان. (أ) الفيدرالية الرئاسية: سيلاقي الرئيس صعوبة في إصتصدار التشريعات خاصة أذا كانت له إعتقادات مختلفة عن أفراد الجهاز التشريعي. الرئيس مسئول أمام الشعب و لذلك لا يستطيع الجهاز التشريعي تنحية الرئيس عن السلطة إلا في ظروف إستثنائية. يستطيع الرئيس جعل الأمور صعبة على أفراد الجهاز التشريعي لعمل أي شيء. (ب) الفيدرالية البرلمانية: إذا لم يرض البرلمان عن رئيس الوزراء يستطيع حجب الثقة عنه و إسقاطه و من ثم إستبداله بآخر. يميل إلى جعل رئيس الوزراء متعاوناً مع البرلمان. و عموماً إذا كنا نرغب في حكومة تملك المزيد من الإتزان و الرقابة فإن النظام الرئاسي سيوفر ذلك. أما إذا كنا نحبذ تفعيل التشريعات بسرعة أكبر، فإن النظام البرلماني هو الأمثل.
بلا جدال فإن الفيدرالية هي أنجح أنظمة الحكم في العالم. و يتجلى ذلك في أن معظم دول الطليعة في العالم تحكم بالنظام الفيدرالي. إذن فما بال حكام جنوب السودان يعارضون بشدة إقامة النظام الفيدرالي في البلاد؟ هل النظام الحالي الذي يتشبثون به قد توفق في إنتشال البلاد من مستنقع الفقر و الجهل و المرض؟ ألم يثبت فشله بدفع البلاد إلى أتون حرب أهلية عبثية؟! أليست جنوب السودان هي الأولى على قائمة الدول الفاشلة في العالم و الثانية بعد الصومال على قائمة الدول الإكثر فساداً على مستوى العالم؟! السبب لا يعدو أن يكون خليطاً من التخندق خلف الديكتاتورية و إدمان الفساد و الشوفينية القبلية.
أولاً – النظام الفيدرالي سيضع حداً للحكم الأحادي و الذي يركز السلطة في يد شخص واحد هو رئيس الجمهورية. بالطبع الرئيس كير لن يرضى بالنيل من سلطاته الحالية على الرغم من كونه رئيس الأمر الواقع.
ثانياً – الفصل بين السلطات القضائية و التشريعية والتنفيذية. هناك من لا يريد أن يكون الكل سواسية تحت طائلة القانون، بل يريدون إستمرار الوضع الحالي حيث يظل البعض فوق القانون.
ثالثاً – تقوية حكومات الولايات بمنحها قدراً كبيراٌ من الإستقلالية كما أن رئيس الجمهورية لا يستطيع إقالة حكام الولايات. كير لن يقبل بذلك لأنه سيحرمه من التحكم في مجريات الأمور في الولايات و إقالة حكام الولايات كما يشاء.
رابعاً – سيؤدي إلى إنحسار المد القبلي الشوفيني في الساحة السياسية . لن يكون هناك "برلمانات قبلية موازية" كما هو الحال الآن و سيعاني هؤلاء السياسيين القبليين من بطالة حتمية.
خامساً – الحد من سيطرة الحكومة المركزية على أراضي الدولة و بالتالي وقف بيع أراضي المجتمعات القبلية بصفة غير مشروعة إلى جهات أجنبية. المتنفذون في جوقة كير لن يعجبهم ذلك لأنها تعني نهاية عمليات إغتصاب الأراضي التي تدر عليهم ملايين الدولارات. سادساً – ستحظى الولايات بنصيب الأسد في إدارة السياسات الاقتصادية و التعليمية و الخدمية. و من سخريات القدر فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت قد روجت مقولة " إحضار المدن إلى القرى" معلنة عن عزمها تطوير الريف. و لكن الواقع يشير إلى أن القرى هي التي تم إحضارها إلى داخل المدن نتيجة لفشل الحكومة في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
سابعاً – تشجيع التنافس المشروع بين الولايات في كافة المجالات مما يساعد على تحسين الأوضاع على كافة الأصعدة. لن يعجب ذلك الكسالى الذين يتسكعون في العاصمة و المدن الكبيرة بدلاً من التوجه إلى الأرياف للنهوض بالمجتمعات الريفية.
ثامناً – خدمات الشرطة و الدفاع المدني و حرس الصيد تقع تحت مسئوليات الولايات مما يساعد على إستتباب الأمن و يسهل من القضاء على ظاهرة المسلحين المجهولين. و هذا أيضاً سيضع نهاية لإستخدام الأجهزة الأمنية بواسطة بعض القيادات لخدمة طموحاتهم الشخصية و تصفية خلافاتهم الخاصة مع خصومهم السياسيين.
تاسعاً – تكوين جيش وطني محترف يراعى فيه مشاركة أبناء و بنات كل قبائل جنوب السودان. لن تكون هناك ميليشيات قبلية كما أن "كشوفات الأشباح" ستختفي إلى غير رجعة. بالطبع هذا سيغضب أمراء الحرب حيث أنهم كانوا ينهبون خزينة الدولة من خلال تقديم كشوفات لأفراد وهميين يقبضون بموجبها مواهيهم و معاشاتهم.
عاشراً – النظام الفيدرالي ما هو إلا تجسيد للممارسة الديمقراطية المثلى في وطن متعدد الاثنيات. و بالأخص، فإنها تخلق جواً صحياً من التعايش السلمي بين المجتمعات مما يضمن حرية التعبير و رفع القيود عن الصحافة و كل القنوات الإعلامية.
جنوب السودان ملك لنا جميعا و ليست هناك أية قبيلة أكثر ملكاً لها من غيرها. لقد أصبح الوطن قاب قوسين أو أدنى من السقوط في فخ الصوملة. ولذا فإن حكمة أبناءها المخلصين و جهودهم مطلوبة بشكل عاجل أكثر من أي وقت مضى. نظام الحكم الذي يناسب جنوب السودان هو ذلك النظام الذي يلقى التأييد وسط الأغلبية العظمى من الشعب و ليس ما يحبذه الحكام. و بلا شك فإن النظام الفيدرالي هو مطلب الجماهير.