إن توقيع إتفاق تسوية النزاع في جنوب السودان ، بعد أن تمت إعادة إحياؤه بواسطة منبر الإيغاد ، لن يكون بطبيعة الحال نهاية مطاف العملية السلمية ، لذلك فاننا لانستطيع الجزم بأن السلام النهائي والمستدام قد تحقق بمجرد التوقيع عليه من قبل الفرقاء أو الإخوة الأعداء بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا في الأسبوع قبل المنصرم ، فقد علمتنا تجربة الإتفاق الموؤود في يوليو 2016 ، أهمية استلهام الدروس المفيدة ، وتأجيل الإحتفاء بالسلام إلى حين الشروع في التنفيذ ، ولا يوجد ما يمنع البقاء على ذات الحال حتى نهاية الفترة الانتقالية إن كان لدينا طول أناة ، خاصة بعد أن شكك مواطنين استطلعت (إذاعة آي راديو) آرائهم حول إتفاق السلام الإسبوع الماضي ، في أن تكون هناك رغبة جدية لتحقيق السلام من قبل القادة السياسيين في جنوب السودان ، وقد تلمست تلك الشكوك التي تساور الشارع جميع الخطب السياسية وهي تستميل شعب جنوب السودان ، بمنحهم آخر فرصة ليقوما بتبديد تلك المخاوف والشكوك النابعة من تجربة عملية أثبتتها السنوات الماضية ، سنوات التعب و التشرد والنزوح ، فمن أين لهم بتلك الثقة العمياء في هذه العملية السلمية ، طالما لم يتغير نهج القادة ، صراعاتهم ، مشاحناتهم الشخصية الموروثة من سنوات حرب التحرير ، وبعض رغباتهم المتأصلة للإستقراد بأوضاع الحكم في البلاد دونما رؤية وبرنامج واضح ومحدد الملامح.
رغم التعديلات الجديدة التي طرأت على إتفاقية السلام ، بعد أن تمت إضافة بنود جديدة لاستيعاب المتغيرات الجديدة التي شهدتها العملية الأزمة السياسية بالبلاد بعد إنهيار إتفاقية السلام في 2016 ، ومن بينها ظهور جماعات سياسية وعسكرية جديدة لم تكن موجودة مسبقاً ، لكن هناك عوامل أخرى ساهمت في قبول الحكومة بمخرجات عملية إعادة الإحياء دون أن تبدي تحفظات أخرى جديدة ، فبالإضافة إلى الإختراق الكبير الذي قامت به الخرطوم لمحور (القاهرة – جوبا- كمبالا) ، و الذي نجح في انتزاع فتيل الأزمة إلى حد ما ، فإن الضغوط الدولية المتعاظمة على الحكومة مع قرب إنتهاء شرعية المؤسسات الإنتقالية وانقضاء عمر إتفاقية السلام التي تستمد منها شرعيتها ، وتعذر إقامة إنتخابات عامة في الأوضاع الحالية التي تمر بها البلاد ، بجانب الأزمة الإقتصادية الخانقة التي باتت تواجهها بعد تدني إنتاج النفط بسبب الحرب ، وضعف العائدات ، صعوبة الحصول علي ديون أو قروض مجزية ، تعتبر جميعها من المتغيرات التي تستوجب البحث عن مخرج حقيقي لتلك الأوضاع ، وذلك من خلال العمل من أجل إستعادة السلام و الإستقرار للبلاد ، بأي ثمن أو تكلفة وهو ماتحقق عبر وساطة الخرطوم الأخيرة التي دمجت جميع تلك المصالح في قالب واحد ، وجدته الحكومة مقبولاً لتجديد ولايتها لأربع أعوام إضافية ، تسكن بها من هذا الرهق الطويل.
مأزق هذا الاتفاق سيكون في طول عمر الفترة ما قبل الإنتقالية الذي يقدر بثمانية أشهر، والتي ستمثل في تقديري اختبارا صعبا لهذا الإتفاق ، وقدرته على الصمود في وجه التحديات الكبيرة الماثلة أمامه ، ومن بينها بالضرورة . استمرار حالة الاستقطاب الحاد خلال هذه الفترة ، فأي نشاط يكون هدفه الإضرار بواحدة من من الأطرف سيؤدي حتما لانهيار الإتفاق ،كما أن تصدع أي من مجموعات المعارضة تحت تأثير آلية السوق السياسي ، ستكون له تداعيات وخيمة علي التسوية السلمية برمتها ، ولن تجد الحكومة حينها شريكا فاعلا تنفذ معه الإتفاق ، كما أن ذلك سيعزز من المخاوف و الشكوك التي ظلت تساور المجتمع الدولي ولاتزال، وأعني دول الترويكا بالتحديد بعد رهنت دعمها للإتفاق الموقع بمدى التزام وجدية الأطراف في تنفيذ بنوده ، وقد وضعت شرطا لذلك يتمثل في وقف الحرب وجميع أشكال العنف الدائر بالبلاد ، وتلك ثغرة كبيرة قد توعز للعديد من الجماعات غير الراضية عن هذا الإتفاق بالوقوف موقف المتفرج ، أو الإعلان بشكل صريح عن عدم مساندتها للإتفاق كما صرحت بذلك قبلاً جبهة الخلاص الوطني ، وجبهة جنوب السودان المتحدة ، وآخرين من دونهم ، كانوا يخشون من التعبير عن مواقفهم خشية ذلك الموقف الدولي الذي بات متطابقاً لحد كبير مع ما قدموه من تبريرات كانت وراء رفضهم للمشاركة في هذا الإتفاق.
أيضاً ستمثل قضية حدود الولايات ، وترسيم الحدود القبلية التي أفرد لها الإتفاق مفوضيتان يتوقع الإعلان عنهما في الأيام القلائل ، واحدة من العقبات الكبيرة ، إذا لم يتم توضيح الآلية التي سيتم عبر حسم تلك القضية بالنسبة للمجتمعات المتنازعة في قضايا الحدود والأراضي ، فستنشأ معضلة جديدة ، لأن القضية إتخذت طابعاً سياسيا بعد تقسيم الولايات في إكتوبر 2015 ، دون أن يتم ترسيم حدودها الداخلية، أو تحديد المعايير التي أتبع على أساسها هذا التقسيم ، فحتي اللجنة التي تم تعيينها للقيام بهذه المسألة لم تضطلع بمهامها إلى الآن من ترسيم لحدود الولايات الجديدة ، لأن جميع تلك النزاعات تتطلب تحضير الوثائق التي تدعم إدعاءاتها بملكية تلك المناطق المتنازع حولها، سيما وأن اللجنة المختصة بحدود وعدد الولايات ستقوم بوضع تصورها حول عدد الولايات ، حال فشل الأطراف الممثلة للأطراف المشاركة في تنفيذ إتفاقية السلام الوصول إلى صيغة توافقية ، سيحسم الأمر عن طريق إجراء استفتاء عام في البلاد للتصويت على مقترحات اللجنة التي ستكونها الإيغاد ويشارك فيها ممثلين عن الأطراف، وسيتم إعتماد عدد الولايات بحسب الخيار الذي تحدده نتائج الإستفتاء و أصوات المقترعين.
إذن فالإتفاقية تنطوي على لأكثر من جديد ، أبرزها إلى جانب تلك القضايا التي أشرنا الي البعض منها ، هو حرص الحكومة على صمودها وعدم تعرضها للإنهيار لأنها حققت لها مكاسب عديدة ، وستسعي عبر محاولات تأكيد إلتزامهما به ، أن تطسب ود ورضي المجتمع الدولي للحصول علي الدعم المادي والسياسي والدبلوماسي خلال الفترة المقبلة ، لكن السؤال الذي سيظل مطروحاً باستمرار ، هو هل سيستطيع هذا الإتفاق تجاوز امتحان الفترة ما قبل الإنتقالية؟.