تعزية : دينق قوج – من أي طين الأرض أنت ؟؟

 عادل فارس مياط

كيف نعزيك..؟؟

والكل يعزي نفسه !

ماذا فعلت بهم ؟؟

من أي طين الأرض انت ؟؟

قل لي …أعجلت .. ام استعجل اليوم رحيلك حتي لاتري ضعفنا في غيابك…

الراحل دينق قوج

كل شي بدا فجر الاثنين ١٦ سبتمبر علي بعد أيام من نهاية عام كانت تضاريسها صعبة خلال السنة و مليئة بالمفاجأت حلوها ومرها .. …ودينق قوج كأنه استعد الرحيل في صمت وشكر ….

“شكراً ربنا لكل النعم… شكراً للعافية والناس الحلوين الحولي. أني بحتفل بعيد ميلادي الـ58، وراضي عن نفسي وعن كل حاجة زي ما أديتني يا رب، أدي كل محتاج عافية وفرحة وسلام.”

(دينق قوج_علي صفحته في الفيسبوك…)).

الراحل دينق قوج

ونكتب نحن عنك حكايات عبورك المفاجئ فجر يوم الاثنين ١٦ ديسمبر بنيروبي ، رحل عنا الأستاذ البرلماني دينق قوج ، أحد أبرز رموز جنوب السودان الشابة، الذي كرس حياته لخدمة قضايا شعبه ومنطقته، وحمل هموم وطنه الكبير في كل المحافل كان دينق مثالًا نادرًا لرجل جمع بين الأصالة والبساطة،وانيق في مفرداته وتواصله مع الناس وهو كذلك بين الفكر العميق والعمل الدؤوب، وظل حتى آخر لحظة وفياً لأحلام وطنه وشعبه.

وُلد دينق قوج عام 1966في قرية (وون نقير) شمال الرنك في اعالي النيل حيث ترعرع في بيئة زراعية أصيلة عُرفت بخصوبة أراضيها وأصالة مجتمعها،نشأ في أسرة تنتمي إلى عشائر شمال أعالي النيل من الابلانغ، تحديدا أسرة الأمير الراحل ((دينق كويي)) وهي سلالة ممتدة ولها تاريخ نضالي طول النيل حتي الجبلين ، ومنطقة شمال أعالي النيل كجغرافية تُعد أكبر رقعة زراعية في جنوب السودان، فكان قوج قريباً من الأرض ومن أهلها، محباً للزراعة والعمل الجماعي.

من ابوخضرة الي الرنك جنوبا حيث أنهى دينق دراسته الثانوية في مدرسة الرنك أواخر الثمانينيات، وهو يحمل في قلبه أحلام الشباب الطموح بمستقبل واعد لم تكن الطريق سهلة، لكنه اختار أن يشقها بإرادة لا تعرف اليأس، اتجه شمالًا البقعة الي السودان وقتها كان الحلم والمرفأ …

ليبدأ رحلة جديدة من الكفاح، عمل خلالها في شتى المهن، من توزيع الصحف إلى البناء واخري علي هامش الحياة الخرطومية بنزوحهها وصعابها ، قبل أن يتم ابتعاثه لدراسة الآداب وعلم الاجتماع في جمهورية مصر العربية في منتصف التسعينيات،

تخرج دينق في جامعة الزقازيق، حاملًا معه علمًا غزيرًا وتجربة حياتية ملهمة في ام الدنيا …لقد تعلم هناك معنى التضحية والكفاح، وكيف يصنع الإنسان مستقبله بيديه كان خلال دراسته طالبًا مجتهدًا وعاملًا مكافحًا، وكادر نشطا في دوائر الحركات الطلابية الداعمة لمسيرة النضال المسلح حينها حيث وازن بين طلب العلم والعمل لتأمين احتياجاته واسرته.

بعد التخرج، عاد دينق إلى السودان، والتحق بالعمل في المجال التعاوني والزراعي، ليكون قريبًا من جذوره ومن أهله الذين عاش بينهم فقد عمل في الاتحاد العام للمزارعين بالسودان، ثم في الاتحاد التعاوني بالرنك، مدافعا عن حقوق المزارعين وساهم في تحسين أوضاعهم .

وخلال مسيرته أسس منظمة (الباب) مقرها بانت شرق في امدرمان تعنى بتنمية الريف والثقافة والتراث وتأهيل المجتمعات المتأثرة بالحروب في الصحة والتعليم والهجرة فاقام فصول دراسية سماها ((ماما اليزا )) لتعليم أبناء النازحين في امدرمان ومدينة الرنك اوخر التسعينيات،

إدراكًا منه لأهمية بناء الإنسان قبل الأرض حيث كانت هذه التجربة امتدادًا لارتباطه الوثيق بمجتمعه أينما اتيحت له فرصة خدمتهم ..وكم كنت مزهوا بعمله الانساني هذا في بانت وكيف انه انشأة موقع خاص بالمنظمة علي الإنترنت بداية الألفية والطريف هو من ساعدني في الحصول علي اول ايميل(مكتوب).

وقوج من بين الشباب العشرات ممن اتضح ادوارهم الكبيرة والعميقة في مراحل بناء العمل السياسي التنظيمي للحركة الشعبية انفاذا لاتفاق السلام السودانية الموقع عام ٢٠٠٥م بنيروبي وساهم مع آخرين في اصدار أول  صحيفة سودانية هواها جنوبي وهو صوت الهامش إسمها ((اجراس الحرية )) شكلت منصة للتعبير الحر في زمان الكبت وتكميم الافواه لتطلعات شعب امن بالسودان الجديد ،

صحيفة اتاحت منابر للرأي الاخر وحققت في قضايا مصيرية وجدليه الوحدة ام الانفصال و رغم التضيق الذي مورس عليها وعلي منسوبيها كانت تقارع بالحجة والمنطقة والخبر اليقين صحف الخرطوم في اوج مجدها..

وكعهده كان دينق قوج حاضرًا في المشهد الوطني. في أول ممارسة تشريعية تمهيدا للاستقلال فقد انتُخب دينق عضوًا في (البرلمان القومي) عام 2010م وحتي تاريخ وفاته بنيروبي ، ممثلًا عن دائرته في شمال أعالي النيل ، أهلته أصالته ووطنيته الغيورة ليكون صوتًا صادقًا لأبناء منطقته، حاملًا هموم مجتمعه ورؤى جيل مناضل عمل وحلم سويًا من أجل استقلال جنوب السودان.

لقد كان دينق نموذجًا للبرلماني الشاب الذي لم ينسَ جذوره، فظل قريبًا من الناس، وأهله بل في كل ناصية وركن له اليد الطولي في العمل الشبابي والانساني والطوعي ومبادراته لا تحصي ولا تعد وما قدمه في الخفاء يعلمه الله كان زاهدا في كل شي ..

لم يكن دينق مجرد سياسي، بل كان كاتبًا ومثقفًا عميقًا وصحفيا مقتدر ومحلل متزن ، استخدم قلمه لتسليط الضوء على قضايا مجتمعه ووطنه ومدافعا عن المواطنة والحقوق وخط دفاع اول عن القيم والمبادئ الشريفة فهو هو دينق قوج مذ ان عرفته هاشا باشا لايرد احد طلبا لا تسمعه يشكو الا غيرة علي وطنه خازن أسرار نفسه وهو الحاضر في كل ملمة وساترك لمعارفه وأصدقائه الحكم عليه فشهادتي فيه مجروحة .

وهو من اوئل المهتمين بالنشر كما فعل مع اجراس الحرية واصل حلمه في الدولة الوليدة بتاسيس دار [رفيقي للطباعة والنشر] لدعم الكتاب والشعراء، مما ساهم في إبراز الهوية الثقافية لجنوب السودان وتعزيز دور الأدب في بناء الوطن وله اصدرات ومجموعات قصصية لكتاب عالميين ابرزهم بركة ساكن وغبريال آرثر ومجموعات شعرية ومشاركات دورية في كل المهرجانات الإقليمية والدولية..

دينق قوج لم يكن وحيدًا في مسيرته، فقد كان رفيقًا لكوكبة من أبطال جنوب السودان الذين أفنوا زهرة شبابهم في سبيل تحقيق أحلام الوطن لحق دينق بصحبه من شهداء الحركة النضالية من شباب منطقته شمال أعالي النيل.

تلك البقعة التي انجبت قادة سياسيين واهلية مجتمعية ورياضية واعلامية وفنية ومهنية والعمل التعاوني والمهني هم الان علامة فارقة باسهاماتهم المشرفة وانتمائهم النبيل كذلك امثال جوك يوسف نقور وغيرهم من خيرة شباب الجنوب، الذين رحلوا وهم يحملون رايات الأمل والعمل.

قبل رحيله بأيام ترك دينق قوج رسالة حب وامتنان كتبها على صفحته الشخصية:

*”شكراً ربنا لكل النعم… شكراً للعافية والناس الحلوين الحولي. أني بحتفل بعيد ميلادي الـ58، وراضي عن نفسي وعن كل حاجة. زي ما أديتني يا رب، أدي كل محتاج عافية وفرحة وسلام.”*

كانت كلماته الأخيرة شهادة على قلبه النقي وروحه الطيبة، وإيمانه بأن الحب والسلام هما جوهر الحياة.

برحيل دينق قوج، تفقد أعالي النيل، وتحديدًا الرنك، واحدًا من أبرز أبنائها وأصدق رموزها. لقد كان رجلًا وطنياً شامخًا ، بسيطًا كأراضي الرنك، وعميقًا كالنيل الذي يجري في عروق أهله.

نرثيك اليوم بقلوب يعتصرها الحزن، لكننا نحملك في ذاكرتنا كنموذج لرجل عاش من أجل الآخرين، وترك أثرًا لا يمحى في قلوب كل من عرفوه. لقد رحلت بجسدك، لكن روحك ستظل حية في كل شبر من جنوب السودان رحلت وتركت لنا قر اعينك من البنين ثلاثة والبنات اربعة هم زادك لوطن تحمله ويحملك اليوم في ذاكرته رقم نبيل .

وداعًا أيها الرجل العظيم… كنت وما زلت رمزًا للأمل، للسلام، وللمحبة. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.

((انا لله وانا اليه راجعون))..

أخوك /عادل فارس مياط _جوبا