في وقت كانت فيه الأنظار تتجه إلى العاصمة الكينية نيروبي يوم، 11 نوفمبر 2024، لاستئناف مفاوضات السلام بين حكومة جنوب السودان والمعارضة، غاب وفد حكومة جوبا عن حضور الجلسات المقررة. ورغم أن الاتفاق بين الرئيس الكيني وليام روتو ورئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت كان واضحًا بعودة الوفد الجنوبي إلى نيروبي، فإن غيابه يثير العديد من التساؤلات حول دوافع هذا التأخير والتمسك باستمرار الحرب، التي تبقى في النهاية مصلحة لبعض الشخصيات التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن.
بقلم \محمود اكوت
من المستفيد من الحرب؟
الحديث عن غياب الوفد اليوم ليس مجرد مسألة سياسية، بل يكشف عن حقيقة مريرة تتعلق بمستفيدين محددين من استمرار النزاع في جنوب السودان. هناك مجموعة صغيرة من الأشخاص في السلطة، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين، الذين يجنون أرباحًا ضخمة من استمرار الحرب. هؤلاء الأفراد ارتووا من دماء الشعب، واستمروا في استغلال الأزمة الإنسانية لمصلحتهم الشخصية. فمن خلال الحرب، تبقى خزائنهم مليئة، وتظل مواقعهم في السلطة محصنة.
إن هؤلاء المستفيدين من الحرب ليسوا مجرد شخصيات غير معروفة، بل إنهم معروفون لدى الشعب الجنوبي بالحرف الواحد. يعرف المواطنون الجنوبيون تمامًا من هم هؤلاء الذين لا يتورعون عن التضحية بمستقبل البلاد من أجل مصالحهم الشخصية. فمن خلال استمرار الصراع، يتمكن هؤلاء من استغلال الموارد الطبيعية، وتنفيذ صفقات مشبوهة، وتضخيم أنفسهم داخل النظام، بينما يعاني الشعب من ويلات الفقر والدمار.
السلام يعني فقدان المصالح
كلما اقتربت عملية السلام من تحقيق نتائج ملموسة، وكلما اقتربت البلاد من الخروج من دوامة الحرب، تزداد مخاوف هؤلاء المستفيدين، الذين يدركون جيدًا أن السلام يعني في النهاية انتخابات، والانتخابات تعني تغييرًا في السلطة. هؤلاء الأشخاص لا يريدون انتخابات حرة ونزيهة، لأنهم يعرفون أن ذلك سيعرضهم لخطر فقدان هيمنتهم على السلطة. إنهم ببساطة لا يرغبون في السلام، لأنه يعني نهاية لمرحلة السلطة التي يتمتعون بها، وبالتالي يفقدون الفرص التي تمكنهم من الاستفادة من الوضع الحالي.
استمرار الحرب: لعبة مصالح شخصية
إن استمرار الحرب في جنوب السودان لم يعد مجرد صراع سياسي أو عسكري بين الحكومة والمعارضة، بل أصبح لعبة مصالح شخصية تُخاض على حساب الشعب. كلما طال أمد الحرب، ازداد ربح هؤلاء الذين يتاجرون بمعاناة المواطن الجنوبي. فالحرب تتيح لهم إمكانية الوصول إلى التمويل الأجنبي، كما تتيح لهم السيطرة على مصادر الثروات في مناطق النزاع. في الوقت نفسه، يعاني المواطنون من تضخم الأسعار، ونقص في المواد الأساسية، وتدمير للبنية التحتية، لكن لا أحد يبدو مهتمًا بإيجاد حلول جذرية لهذه الأزمة.
من هنا، فإن غياب الوفد الجنوبي عن مفاوضات نيروبي اليوم لا يعد مجرد غياب دبلوماسي، بل هو رسالة مفادها أن السلام ليس في مصلحة أولئك الذين يسيطرون على مفاصل الدولة. فكل خطوة نحو السلام تعني نهاية للامتيازات التي يحصل عليها هؤلاء، ولهذا يحرصون على إبقاء الأوضاع كما هي.
الشعب يعرفهم جيدًا
ما يزيد من مأساوية الوضع هو أن الشعب الجنوبي يعرف هؤلاء المستفيدين من استمرار الحرب. هناك مجموعة محددة من الأفراد الذين أصبحوا رمزًا للاستفادة من الصراع، ويعرفهم الجميع في جوبا وغيرها من مدن جنوب السودان. هؤلاء الذين يديرون الأزمة من وراء الكواليس لا يخفون فسادهم وابتزازهم للمواطنين، بل يعتمدون على شبكة من العلاقات السياسية والعسكرية التي تعزز من قدرتهم على السيطرة على الوضع.
في الوقت الذي يتساقط فيه الضحايا في جميع أنحاء البلاد، تظل هذه الشخصيات مستمرة في اللعب على وتر الحرب والصراع، مما يعكس صورة قاتمة للسياسة في جنوب السودان.
خاتمة: الحقيقة التي يجب أن يراها الجميع
غياب الوفد في نيروبي اليوم ليس مجرد تأجيل للمفاوضات، بل هو مؤشر على أن عملية السلام في جنوب السودان قد تكون محاصرة من قبل هؤلاء الذين يرفضون السلام لأن ذلك يعني خسارة مصالحهم. هؤلاء الذين استغلوا الحرب لتحقيق مصالح شخصية لن يتوقفوا عند شيء من أجل الحفاظ على نفوذهم. لكن الحقيقة واضحة: الشعب الجنوبي لن يظل صامتًا أمام هذه الممارسات. لقد حان الوقت لكي يتخذ الجميع موقفًا حاسمًا ضد هؤلاء المستفيدين الذين يواصلون ارتواءهم من دماء الشعب، ويجب أن يكون الشعب على استعداد للتصدي لهذا الوضع والمطالبة بحياة أفضل، بعيدًا عن ويلات الحرب ودوامة الفترة الانتقالية.
محمود اكوت
ناشط مؤيد للديمقراطية
باريس، فرنسا
mahmoudakot@gmail.com