(البدون في السودان).. صدمة آلاف العائلات بعد فقدان الهوية

صورة شبكة عاين

لم يكن “أندرو كان جون” يتوقع أن يقضي عِقداً من عمره متنقلاً بين مكاتب التسجيل المدني في دولتي السودان وجنوب السودان بعد انقسام البلدين 2011 للحصول على أوراق ووثائق رسمية تثبت انتمائه لأي منهما، دون الوصول إلى مبتغاه، مما أثار صدمته ويأسه وهو يسير في طريق طويل بحثاً عن هويته المفقودة.

(البدون في السودان).. صدمة آلاف العائلات بعد فقدان الهوية

لم يكن “أندرو كان جون” يتوقع أن يقضي عِقداً من عمره متنقلاً بين مكاتب التسجيل المدني في دولتي السودان وجنوب السودان بعد انقسام البلدين 2011 للحصول على أوراق ووثائق رسمية تثبت انتمائه لأي منهما، دون الوصول إلى مبتغاه، مما أثار صدمته ويأسه وهو يسير في طريق طويل بحثاً عن هويته المفقودة.

أندرو الذي تتداخل جذور عائلته بين الشمال والجنوب يروى، لـ(عاين)، فصلاً من مسلسل مأساته التي بدأت مع إنفصال دولة جنوب السودان وسقوط جنسيته في السودان الشمالي نتيجة تعديلات قانونية أدخلتها حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير، لتكون المحصلة ضياع مستقبل أسرته بأكملها وفقد أبناءه الثمانية فرصهم في التعليم والتنقل وسائر الخدمات والحقوق.

ووقتها، سارعت حكومة المخلوع عمر البشير بتعديل المادة 10 من قانون الجنسية السوداني إذ جرى إدخال نص جديد يقر إسقاط الجنسية السودانية عن كل شخص إكتسب جنسية دولة جنوب السودان حكماً أو قانوناً، في أكبر عملية تشفي سياسي وجريمة ترتكب في حق ملايين الأشخاص، حسب توصيف قانونيين.

واقع أليم أجبر “جون” للفرار إلى مخيم للاجئين في ولاية النيل الأبيض السودانية على حدود البلدين، بعد أن حاصرته نيران الحرب في الدولة الوليدة وفقدانه الوثائق الثبوتية التي تمكنه من الإقامة في السودان الشمالي أو السفر لأي بلدٍ آخر، لتتوقف حياته تحت رحمة المساعدات الإنسانية، وانطفأت كل مصابيح الأمل وصار المستقبل مظلم ومجهول أمام هذه العائلة، كما يروي.

“أندرو” واحد من بين آلاف الأشخاص يعيشون في السودان سقطت جنسياتهم عقب إنفصال البلدين الذي حدث في العام 2011م، نتيجة تداخل جذورهم بين الدولتين وصاروا مرفوضين من الخرطوم وجوبا معاً، وترتب على ذلك فقدان هذه الفئة فرص العمل والتعليم والسفر والإقامة وهي أبسط الحقوق الدستورية التي ينبغي أن يتمتع به أي مواطن، وفق قانونين.

ويكشف رئيس منظمة العائدين من دولة جنوب السودان، مدني مهدي موسى في مقابلة مع (عاين)، حصرهم 31 ألف أسرة، حوالي 155 ألف شخص جرى ابعادهم من جوبا إلى السودان الشمالي بعد الإنفصال، وهم بلا هوية ويعيشون في ولايات النيل الأبيض، والأزرق، وسنار تحت ظروف إنسانية معقدة وفقدان لكثير من الفرص والخدمات، دون أن يهتم أحد بقضيتهم.

فيما يشير محامون مهتمين بالقضية إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة بعدد الأشخاص فاقدي الهوية في السودان، لكن هناك آلاف الأشخاص أغلبهم أطفال تم إنجابهم بعد الإنفصال، لم يتمكنوا من الحصول على الوثائق الثبوتية نتيجة تداخل جذور والديهم بين دولتي السودان وشماله.

وعقب إنفصال جنوب السودان في العام 2011م، مارست حكومة الخرطوم تضيقاً واسعاً على ذوي الجذور الجنوبية وأمرتهم بالمغادرة للدولة الوليدة، بينما فعلت جوبا عاصمة جنوب السودان الشيء نفسه وطردت السودانيين الشماليين لديها، وترتب على ذلك فقدان الآلاف لوظائفهم وحرموا من فرص العمل والسفر والإقامة لاحقاً.

الشرطي اللاجئ

يواصل “أندرو كان جون” قصته لـ(عاين) عبر الهاتف من ملجأه في مخيم “العلقاية” بولاية النيل الأبيض، قائلاً إنه “من مواليد ولاية جونقلي في جنوب السودان، وكان يعمل شرطياً بقسم الأدلة الجنائية بالعاصمة السودانية الخرطوم، وتزوج من إمراة سودانية من مدينة الأبيض وأنجبت له 8 أطفال من البنين والبنات”.

يضيف: “بعد الإنفصال غادرت إلى جنوب السودان بعائلتي عقب التضييق الذي تعرضنا له في الخرطوم، لكن السلطات في جوبا رفضت منحنا الجنسية وبقينا هناك حتى اندلعت الحرب في العام 2013م وفررت بعائلتي إلى الشمال مجدداً واستقرينا في مخيم العلقاية وصرت رئيساً للمعسكر، وسعيت لاستخراج وثائق ثبوتية لأبنائي استنادا إلى جنسية والدتهم السودانية ولكن فشلت كل محاولاتي”.

وتابع “نتج عن ذلك حرمان أبنائي من التعليم النظامي واضطررت لإلحاقهم بمعهد كمبوني في مدينة كوستي، لكن كمبوني قد يساوي تعليم إبتدائي وأنا أريد أن يدرس أبنائي حتى الجامعة ويتوظفوا، وهذا بحاجة إلى وثائق مواطنة فدونها لن يكون لنا أي مستقبل. نعيش في هذا المخيم ولن نتمكن من مغادرته بعد أن رفضنا السودان الشمالي والجنوب”.

ويقول اندرو كان جون، لست الوحيد الذي يواجه أزمة إنعدام الهوية، وإنما حوالي ثلث لاجئي المخيم البالغ عددهم 7 آلاف شخص يعانون من نفس المصير، مشيراً إلى تواصلهم مع إحدى المنظمات الناشطة في معالجة أزمة “البدون” ولكن دون جدوى.

تفكُك عائلي

تمتد معاناة الحصول على الهوية في السودان إلى عبدالعزيز محمد أحمد 60 عاماً، الذي فقد كل شيء بسبب إسقاط جنسيته السودانية عقب الإنفصال، إذ طُرد أبنائه الـ”12″ من المدارس وضاع مستقبلهم، وتفككت أسرته وتوزع أفرادها على أقاربه في عدد من المدن السودانية بينها الخرطوم وبورتسودان.

يروي عبد العزيز قصته لـ(عاين) وهو يجلس حائراً أمام مكتب التسجيل والهوية في أمدرمان: “ظللت لأكثر من 12 عاماً أتردد على هذا المكان بغرض إستخراج رقم وطني سوداني، لكن تفشل محاولاتي في كل مرة، فقدت عملي وصرت عاجزاً ومشرداً”.

ويضيف: “والدي جنوبي ووالدتي سودانية، وبعد الإنفصال نصحني بعض الأشخاص بالتوجه إلى دائرة شؤون الأجانب بالخرطوم وتكملة إجراءات إنتمائي لدولة جنوب السودان وترك بصماتي هناك حتى لا نتعرض لمضايقات أو سجن من السلطات السودانية، وبالفعل ذهبت وقمت بهذا الإجراء الذي ما يزال يقف عائقاً أمام إستعادة جنسيتي السودانية”.

ويضيف عبد العزيز لـ(عاين): “تقف بصمتي بدائرة شؤون الأجانب أمام حصولي على الرقم الوطني رغم أني قدمت كل الأدلة التي تثبت سودانيتي، لقد وعدوني بإزالة البصمة مقابل 35 ألف جنيه، وقمت بسداد المبلغ لكن لم يوفوا بوعدهم حتى الآن”.

حفيد بطل تاريخي

مفارقة أخرى أكثر حزناً تحملها قصة “إبراهيم الماظ”، ليس لأنه حفيد البطل السوداني المعروفة عبد الفضيل الماظ يكون بلا هوية، لكنه أصبح رجلاً غريباً وأجنبياً داخل بيته ووسط عائلته الصغيرة فجميع أبناءه يحملون الجنسية السودانية بعد أن منحت لهم من جانب زوجتيه المنتميتان للسودان الشمالي.

وعبد اللطيف الماظ، ضابط وبطل سوداني يزين كتب التاريخ التي تدرس في مراحل التعليم في السودان، فهو الذي شكل برفقة آخرين “جمعية اللواء الأبيض” أكبر جبهة لمقاومة الإستعمار البريطاني في عشرينيات القرن الماضي.

وبعد حوالي 8 عقود على ملاحم الماظ وكفاحه لأجل إستغلال السودان، يتجول حفيده “إبراهيم” في نطاق ضيق داخل العاصمة الخرطوم لا يستطيع السفر ولا العمل وهو في أوضاع إنسانية معقدة، بعد أن رفضت السلطات السودانية إعادته هويته رغم كسبه طعناً دستورياً يقر إنتمائه إلى هذا الوطن الذي ولد ونشأ فيه، يقول الماظ لـ(عاين).

ولم تكتف السلطات السودانية بنزع جنسية الماظ، بل تعرض للسجن لأكثر من 13 شهراً في حراسات دائرة شؤون الأجانب في الخرطوم، وأطلق سراحه مع إندلاع ثورة ديسمبر في العام 2019م.

وحينما انفصل جنوب السودان كان إبراهيم الماظ منخرطاً في صفوف حركة العدل والمساواة التي كانت تقاتل الجيش الحكومي في إقليم دارفور غربي البلاد، وتم أسره في العام 2013 وأودع السجن القومي في الخرطوم وحكم عليه بالإعدام، لكنه خرج في العام 2017م بموجب عفو رئاسي بعد تفاهمات بين الحركة ونظام الرئيس السابق عمر البشير.

ويقول الماظ: “انخرطت في حركة العدل والمساواة مناضلاً لأسباب معلومة ولأجل قضية واضحة في ذلك الحين، لكن هذا الأمر جلب لي عداء شخصي مع الرئيس السابق عمر البشير الذي أمر بإسقاط جنسيتي السودانية وحبسي في شؤون الأجانب، ومزق قرار 7 قضاة من المحكمة الدستورية أمروا بإعادة هويتي”.

وأضاف: “السودان وطني الوحيد ليس لي ملجأ غيره، لقد ولدت فيه وعشت هنا طيلة حياتي، تزوجت من امرأتين من الشمال وأنجبنا عدد من الأبناء، لكن الحمدلله جميعهم يحملون الهوية السودانية عن طريق امهاتهم”.

تشديد الإجراءات

يرى الخبير القانوني محمد إبراهيم، أن السلطات السودانية تتبنى إجراءات مشددة في إستخراج الأوراق الثبوتية خاصة تجاه الأشخاص الذين تعود جذورهم لدولة جنوب السودان وهي تتعامل معه بنوع من التشفي السياسي الواضح، وإن كان غير ذلك لما وضعت نصاً بقانون الجنسية يقر إسقاط الهوية السودانية عن الجنوبين.

وأشار إبراهيم في مقابلة مع (عاين) إلى انه قاد برفقة محامين آخرين حملة لمناصرة فاقدي الهوية من الذين تعود جذورهم لدولة جنوب السودان، إذ استندوا على المادة《4》من قانون الجنسية السودانية التي تقر منح الهوية لأي شخص والدته سودانية، وكسبنا عدد من القضايا، ونشرنا شبكات من المعاونين القانونين والمتطوعين في ولايات البلاد المختلفة لمساعد الأشخاص وتوعيتهم للحصول على الهوية.

وأضاف الخبير القانوني: “تحقق إختراق كبير في القضية لكن مازال هناك آلاف الأشخاص أغلبهم أطفال تم إنجابهم عقب الإنفصال، لم يحصلوا على وثائق ثبوتية نتيجة تداخل جذور والديهم بين الجنوب والشمال، ويترتب على ذلك ضياع مستقبل هؤلاء الصغار بعد حرمانهم من التعليم وغيره من الخدمات”.

بدوره، يشير رئيس منظمة العائدين من جنوب السودان (غير حكومية مقرها الخرطوم)، مدني مهدي موسى، إلى أن السلطات السودانية تطالب بشاهد رئيسي “عصب أساسي من الدرجة الأولى” من الأقارب لطالب الجنسية وهو أمر يستعصي على كثير من السودانيين الذين عادوا من جوبا بعد الإنفصال نظرا لطول المدة وعدم اهتمامهم بأمر الهوية في ظل السودان الواحد.

وقال موسى لـ(عاين): “نظام أرشفة الجنسية متخلف للغاية فمن الصعب أن تجد عصبك لسبعين عاما للوراء، وقانون الجنسية السوداني أيضا قديم وغير مواكب للتطورات في العالم وينبغي تحديثه بما يمكن من منح الهوية بالسحنة والملامح السودانية لرد مظلمة آلاف الضحايا ممن سقطت هوياتهم”.

في السياق، ينفي مصدر في السجل المدني أن تكون إدارته تمارس تعسف او تمييز ضد أي شخص فيما يلي إستخراج الأوراق الرسمية، وأشار المصدر في مقابلة مع (عاين)، إلى إن الدولة تعمل وفق قوانين ولوائح منضبطة فيها تدقيق كبير لطالبي الهوية حتى لا تذهب الجنسية لشخص غير مستحق لا ينتمي لهذا الوطن. وقال “منحنا الرقم الوطني لآلاف من الذين استوفوا الشروط”.