Skip to main content
د. لاكو جادا كواجوك - ٢٠ سبتمبر ٢٠١٨

رأي: حسابات الربح و الخسارة في محادثات الخرطوم للسلام

إنفضت محادثات الخرطوم للسلام بين الفرقاء دون تحقيق إختراق حقيقي في إتجاه بسط الأمن و الإستقرار في ربوع جنوب السودان. لقد كانت نتائجها مخيبة لآمال و توقعات  الشعب و الكثير من المراقبين. و لقد بدا ذلك جلياً في تعليق الأسقف المتقاعد المهندس إنوك تومبي، حيث قال في هذا المقطع المترجم من الإنجليزية إلى العربية "ما أراه، و في ظل الخروقات، فإنه ليس من الصعب على المرء أن يستنتج بأن إستعادة السلام في جنوب السودان، لن يتم إلا بالتدخل الإلهي. و إسترسل الأسقف قائلأ "فمثلا علمت بأن التغيرات الإيجابية التي حدثت في اثيوبيا مؤخرا، كانت نتيجة لصلوات مستمرة و صيام للمؤمنين من أبناء الشعب الاثيوبي بكل قبائله في الداخل و الخارج.   

هذا رأي أحد القيادات الدينيةالمرموقة و المشاركة فى محادثات السلام مع بقية قيادات المجتمع المدني من باب أصحاب المصلحة. يبدو أن هذه القيادات على قناعة تامة بأن فرصة ثمينة لتحقيق السلام العادل قد أُهدرت نتيجة للركض وراء المصالح الشخصية و الحزبية الضيقة دون وضع مصالح الشعب فوق كل الإعتبارات.    

 أهمية هذا التصريح ينبع من كونه صادر من شخص لا يمت إلى الإنتماءات السياسية بصلة. فكلنا نعلم أنه في الجولة الأخيرة للتفاوض  

في أديس ابابا، تخلت الإيقاد عن الوساطة مؤقتا لصالح القيادات الدينية  بعد أن وصلت جهودها إلى طريق مسدود. الأسقف إنوك تومبي كان من ضمن القيادات الدينية التي أدارت التفاوض. و لذا فإن ما قاله ليس نتيجة لإجتهاد شخصي بل هو حصيلة إلمام تام ببواطن الأمور. الحركات المسلحة و الأحزاب و منظمات المعارضة إتخذت مواقف متباينة.  و قد طالت بعضها الإنشقاقات نتيجة لإختراق إستخباراتي نجح في تجنيد بعض الكوادر الضعيفة. فجبهة الخلاص الوطني تعرضت لهجمة شرسة إستهدفت تفكيك مفاصلها و من ثم القضاء عليها. كل الأدلة تشير إلى تورط نظام جوبا بالتنسيق مع جهات أخرى في حبك المؤامرة. و يبدو أن المردود لم يرقى إلى ما كانت تأملها جوبا و من معها. و قد ترتب على ذلك التعجيل بتهميش المنشقين بشكل مذل للغاية. جولة محادثات الخرطوم للسلام بدأت بنشاط محموم قبل وصول بعض قوى المعارضة. فالإتفاق النفطي بين جنوب السودان و السودان، و الذي تم توقيعه بسرعة غير إعتيادية كانت مفاجئة بالنسبة للكثيرين من المراقبين  أن النفط لم يكن أصلاً مدرجاً في أجندات التفاوض فى أديس أبابا. و ما تم بين الخرطوم و جوبا لم يشمله إتفاقية السلام الموقعة في عام ٢٠١٥. تزامن ذلك مع حضور الرئيس اليوغندي، يوري موسيفيني إلى الخرطوم و ما روجتها بعض المصادر من مطالبته بحصة من عائد نفط جنوب السودان. و قد أثار ذلك الكثير من التساؤلات عما إذا كان الأمر برمته ما هو إلا تحقيق لمصالح القوى

الإقليمية و ليس البحث عن سلام مستدام في هذا البلد الذي إبتلي بفعل أبنائه زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة، د. رياك مشار في وضع لا يحسد عليه، حيث الأسئلة تنهمر عليه و على قيادات حركته من كل حدب و صوب. فبصرف النظر عن توقيع قوى المعارضة الأخرى في آخر المطاف للإتفاق النفطي تحت ظروف غير معهودة، فإن د. رياك مشار هو الذي تفاوض مع الرئيسين البشير و كير و إتفق معهما. لا يخفى على أحد بأن الإتفاق النفطي يشكل طوق نجاة للإقتصادين على جانبي الحدود. و لكن المحير في الأمر هو أنه إذا كان ما تم هو إتفاق بين دولتين، فلماذا إشراك الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة فيها دون سواها؟ و ما هو الطرف الذي يمثله رياك مشار في هكذا إتفاق؟ و هل هناك مكاسب مالية لحركة رياك مشار لم يعلن عنها؟ و ما هو المآل إذا نكث كير العهد و تكرر سيناريو يوليو عام ٢٠١٦؟ و من ناحية أخرى، فإن جعل السودان و يوغندا دولتين ضامنتين أدهش الكثيرين من العامة و الخاصة. فالأولى لديها نزاع حدودي مع جنوب السودان في أبيي، و بانثاو (هجليج)، و حفرة نحاس، و كافيا كنجي، و الميل ١٤، و بعض المناطق المتاخمة للشريط الحدودي في شمال أعالي النيل. أما الثانية، فيكفي أنها تدخلت بشكل سافر في الحرب إلى جانب نظام جوبا بعد إرسال موسيفيني للآلاف من قواته لمساندة كير في عام ٢٠١٤. و لكن السؤال الأساسي يظل  موجهاً إلى الدكتور رياك مشار، كيف قبل أن تكون يوغندا ضامنة و هي التي تسببت في تكبد قواته للآلاف من القتلى؟ الإتهامات بإستخدام القوات اليوغندية للقنابل العنقودية ضد الجيش الأبيض لا تزال ماثلة في الأذهان.  و يتراءى للناظر أن الدولتين خاصة السودان، قد حققتا ما تصبوان إليه. على الرغم من إستعادة زعيمها لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة قد خرجت خالية الوفاض بعد توقيعها للإتفاقية. فأهداف الحركة الأساسية قد أُودعت في سلة المهملات. و قد تبدى ذلك في تململ أنصارها و قاعدتها الشعبية. فصائل المعارضة الأخرى لم تكن بمأمن من المشاكل. فلم يمض وقت طويل على وصولها إلى الخرطوم و إلا دبت فيها الخلافات و الإنشقاقات. فصيل الجنرال بيتر قاديت هو الذي شهد أول الخلافات في الرأي داخل التنظيم الواحد مما أدى إلى تعليق عضويتها في تحالف المعارضة لجنوب السودان (سوا) بصفة مؤقتة. و تبع ذلك الخلاف الذي نشب في الحركة الوطنية لجنوب السودان و نتج عنه فصل الدكتور كوستيللو قرنق من زعامتها. و قد وردت في الأخبار مؤخراً أن القيادي الكبير قد أعيد إلى الحركة بعد تدخل السلطان عبد الباقي أيي. حتى مجموعة المعتقلين السياسيين السابقين، لم تسلم من تصدع جدار وحدتها. فقد وقع القيادى دينق ألور بالأحرف الأولى على إتفاقية الخرطوم للسلام خلافاً لرغبة رئيس المجموعة، باقان اموم و بقية زملائه.  و قد تم الإعلان عن رفض المجموعة للإتفاق في بيان صادر بتوقيع رئيس المجموعة باقان أموم. ما تقدم يؤكد بأن هناك مخطط خفي لإضعاف المعارضة عن طريق بث الفرقة بينها مجتمعة و أيضاً داخل كل واحدة منها بشكل منفرد. طبعاً أصابع الإتهام تشير إلى جوبا مدعومة بحلفائها المعروفين و المستترين.   ليس هناك أدنى شك في أن البلد المضيف قد إستفاد من الإتفاق  

   النفطي و الذي جاء في مرحلة دقيقة يمر بها الإقتصاد السوداني. فالطوابير قد بدأت في الظهور أمام محطات الوقود و أفران الخبز بعد أن كانت قد إختفت في السنوات الماضية. أما بشأن إقتصاد جنوب السودان، فحدث بلا حرج. فيكفي أن تعلم بأن الحكومة عاجزة عن دفع مرتبات موظفي الدولة لمدد تتراوح بين ٦ و ٨ أشهرعلى صعيد الحل السياسي للحرب في جنوب السودان، فإن الوضع لا يزال كما هو عليه قبل بدء جولة الخرطوم للمحادثات. حكومة البشير تريد قطف ثمار أية إتفاقية تتحقق تحت وساطتها للفكاك من غول العقوبات الأمريكية. و في سعيها لتحقيق ذلك لا يهمها إذا ما كانت الإتفاقية ستصمد أمام الخروقات أم لا لأن الهدف ليس هو الحصول على حل مستدام للأزمة في جنوب السودان. إقناع الأمريكان بأن السودان شريك يعتمد عليه في حل مشاكل المنطقة مما يؤدي إلى رفع العقوبات الأمريكية هو مربط الفرس. قبل يومين أعلن عن تشكيل وزاري جديد في السودان بموجبه تم تقليص عدد الوزارات من ٣١ إلى ٢١ وزارة. و لكن الوساطة السودانية إقترحت على جنوب السودان حكومة بخمسة نواب لرئيس الجمهورية  و٣٥ وزيرا و ٥٥٠ نائباً برلمانياً.

ألا يشكل هذا المقترح تناقضاً واضحاً مقارنة بالتشكيل الوزاري الجديد في الخرطوم؟ بالنسبة لحكومة جوبا فإن الشرعية و الإستمرارية في الحكم هي مبتغاها و توقيع فصائل المعارضة على الإتفاق بشكله الحالي يعطيها كل ما تريد  فصائل المعارضة المنضوية تحت لواء (سوا) كانت قد كسبت تعاطف و تأييد غالبية الشعب بسبب موقفها الرافض لإتفاق المسائل العالقة بشأن الحكم. و لكن سرعان ما تبدد ذلك التأييد الجماهيري بعد تراجعها عن موقفها الأول. و إتضح للجميع أن توقيع (سوا) بالأحرف الأولى على إتفاقية الخرطوم للسلام ينقصه الإجماع مما شكل خرقاً صريحاً لميثاق التحالف و الذي ينص على إتخاذ القرارات بموافقة كل القيادات. و في خضم ذلك، و رغم حدوث إنشقاق قليل الأهمية في صفوفه، فقد كسبت جبهة الخلاص الوطني إحترام الجماهير نتيجة لثباتها على المباديء و عدم تخليها عن الفيدرالية و محاسبة مرتكبي جرائم 

الحرب و الجرائم ضد الإنسانية. الحركة الشعبية الديمقراطية أصبحت في خندق واحد مع جبهة الخلاص الوطني حيث أنها عارضت إتفاق الخرطوم بشكل صريح. و لكن المفاجأة جاءت من الإنشقاق الذي حدث في وسط مجموعة المعتقلين السياسيين السابقين كما أوردته بعاليه و أفضت إلى رفض أغلبية القيادات للإتفاق. و قد أطلعت اليوم على بيان التحالف الجمهوري الديمقراطي المتحد معلنة سحب الثقة عن عملية السلام الحالية و الإتفاقية المزمع توقيعها في أديس أبابا. و قد وجهت البيان كلمات قاسية لكل من دولتي يوغندا و السودان. يبدو أن المعارضة لإتفاق الخرطوم للسلام في تزايد مستمر. يلوح في الأفق بوادر تحالف معارض للإتفاق و لما تقوم به الإيقاد و القوي الإقليمية ذات المصلحة في ما يدور في جنوب السودان. البحث عن وسيط أو وسطاء جدد للعملية السلمية ستكون قطعاً إحدى أهدافها.  


مقالات الرأي التي تُنشر عبر موقع راديو تمازج تعبر عن آراء كُتابها وصحة أي ادعاءات هي مسؤولية المؤلف، وليست راديو تمازج